كنت قد تحدثت الأسبوع الماضي عن فولتير ومحاربته للتعصب الديني. ولكني ارتكبت هفوة بسيطة. فكتابه مترجم إلى العربية من قبل هنرييت عبودي بعنوان «رسالة في التسامح» وليس «مقالة في التسامح» كما ذكرت. ولذا اقتضى التنويه. ولكن سبقه إلى ذلك مفكر إنجليزي كبير هو جون لوك الذي ألف كتابا بنفس الاسم. ولم يكن فولتير يحلف إلا باسمه واسم نيوتن وبعض عظماء الإنجليز الآخرين. فقد كان معجبا بهم وبالحضارة الإنجليزية وساخطا على تخلف فرنسا والفرنسيين في ذلك العصر. ومعلوم أنه هرب إلى إنجلترا بعد خروجه من سجن الباستيل وأقام فيها مدة سنتين أو أكثر. وهناك تعرف على لندن ومسارحها وحرياتها وتسامحها وراح يدبج كتابه الشهير «رسائل إنجليزية» الذي تحول لاحقا إلى «رسائل فلسفية». وقد صدر عام 1734 وصودر فورا من قبل الأصولية الفرنسية واضطر فولتير مرة أخرى إلى الهرب أو النزول تحت الأرض لكيلا يبتلعه سجن الباستيل الرهيب مجددا. هكذا نلاحظ أن مثقفي أوروبا في ذلك الزمان كانوا يدفعون ثمن جرأتهم الفكرية باهظا. ولم ينم أحد منهم قرير العينين طيلة ثلاثة قرون حتى انتصرت دولة القانون والحداثة الليبرالية التي تؤمن لك حرية التفكير والتعبير بشرط ألا تروج للأفكار الطائفية. وهي ذات الأفكار التي حاربها فلاسفة الأنوار بشدة ولكن خصومهم كانوا مؤمنين بها تماما ويعتبرونها شيئا طبيعيا لا غبار عليه. ما أريد قوله هنا هو أن المثقفين العرب يخوضون اليوم معركة مشابهة لن تنتهي إلا بانتصار الأنوار العربية يوما ما كما انتصرت الأنوار الإنجليزية أو الفرنسية. ولكن بالإضافة إلى هذه المعركة الفلسفية الكبرى ضد الظلامية الدينية هناك معركة أخرى يخوضها الشعب ضد الانسداد السياسي والحكم الشمولي المطلق. وبالتالي فمعركة القوى التنويرية معقدة، مزدوجة الوجهين كما قال «اتحاد الديمقراطيين السوريين» برئاسة ميشيل كيلو.
لكن لنعد إلى موضوع التسامح ولنطرح هذا السؤال: هل الإنسان ميال بطبعه إلى التسامح أم التعصب؟ في الواقع أنه أميل إلى التعصب بشكل تلقائي. فهو لا يستطيع أن يفهم لماذا يوجد معتقد آخر غير معتقده أو مذهب آخر غير مذهبه. ولا يفهم لماذا لا يتخلى الآخرون فورا عن عقائدهم ويعتنقون عقيدته؟ وإذا ما بلغ التعصب لديه مبلغه فإنه قد يتمنى استئصالهم عن وجه الأرض وتطهيرها من «رجسهم وكفرهم». وهذا هو معنى الجهاديين عندنا اليوم. هنا تكمن حقيقة المسألة. وهي مطروحة علينا وينبغي أن نواجهها بكل صدق وأمانة. وهي نفسها التي كانت مطروحة على فلاسفة أوروبا في القرون الماضية. الفرق بيننا وبينهم هو أنهم حلوا المشكلة وتجاوزوها منذ أكثر من مائة سنة في حين أننا لا نزال نتخبط فيها. ولهذا السبب لم يعد يوجد عندهم شيء اسمه مشكلة طائفية. كيف انتصروا على أنفسهم وحلوا مشكلتهم؟ كيف تجاوزوا العصبيات الطائفية التي مزقتهم على مدار القرون وأشعلت الحروب الأهلية فيما بينهم؟ لم يفارقني هذا السؤال طيلة ثلاثين عاما من وجودي الباريسي. نعم لقد حصلت معركة هائجة بين أفكار «الإخوان المسيحيين» وفلاسفة الأنوار. وهي نفس المعركة الجارية حاليا في العالم العربي. وانتصر فيها هؤلاء الأخيرون بعد سنوات طويلة من الصراع والنزال. ذلك أنه ليس من السهل أن تنتصر على القديم. ليس من السهل أن تقتلع الأفكار التراثية الراسخة رسوخ الجبال في العقلية الجماعية لكي تحل محلها الأفكار الحداثية المحررة.
معظم مثقفي أوروبا في ذلك الزمان كانوا إما منفيين وإما مطاردين وإما مسجونين وإما مقتولين أو مهددين بالقتل.. وبالتالي فأسطورة الأبراج العاجية التي يسكنها الفلاسفة بعيدا عن هيجان العالم وضوضائه لا أساس لها من الصحة. تعالوا نعدد الأسماء: جيوردانو برينو تعرفون قصته. لقد قطعوا لسانه وألقوه طعمة للنيران في كهوف الفاتيكان. كوبرنيكوس لم ينجُ من هذا المصير إلا لأن كتابه الشهير صدر في يوم وفاته. فماذا تستطيع أن تفعل بشخص يحتضر؟ لقد ضحك علينا ونجا بجلده في آخر لحظة. غاليليو لم ينجُ بجلده إلا بعد التراجع بل وحتى بعد تراجعه ظل قيد الإقامة الجبرية حتى مات. سبينوزا نجا من الاغتيال بأعجوبة وظل حذرا بعدئذ فلم يقدم في حياته أي شيء ما عدا كتابين باسم مستعار! أستاذه ديكارت كان الحذر بعينه ومع ذلك فآخر البحوث تثبت أنه مات اغتيالا. جون لوك هرب من إنجلترا لفترة وعاش منفيا في هولندا. وقل الأمر ذاته عن فولتير الذي لم يكحل عينيه بباريس إلا بعد ثلاثين سنة غياب. ولكنه عاد بطلا مظفرا حيث هبت العاصمة كلها لاستقباله إلى درجة أن ملك فرنسا استشاط غضبا وغار منه. من يستطيع أن ينافس فولتير على المجد؟ وحتى العاقل الرصين كانط تعرض للتهديد واحمرت عليه الأعين بسبب كتابه الشهير «الدين ضمن حدود العقل فقط». فإمبراطور ألمانيا آنذاك غيوم الثاني كان متزمتا ومحاطا بمجموعة كبيرة من الأصوليين الأشداء الذين يكرهون الفلسفة كره النجوس. فاضطر فيلسوفنا الكبير إلى الاعتذار عن «إفساد الشبيبة» بأفكاره المارقة والمنحرفة عن الطريق القويم. وهل تعتقدون أن تلميذه فيخته عاش مرتاح البال؟ هو الآخر أرعبوه بتهمة الإلحاد بعد أن بلور تفسيرا فلسفيا وعقلانيا للدين. وهو تفسير مضاد لتفسير الأصوليين الشائع بطبيعة الحال. فهرب من جامعة «يينا» على وجه السرعة خشية الاغتيال. ويقال إنه لم يقم نفسيا من تلك الضربة أو تلك المحنة حتى مات. بل وحتى هيغل كان مرعوبا إلى درجة أن كل مخطوطاته عن الدين لم تنشر إلا بعد موته. واللائحة طويلة.. فعزاء إذن وصبرا أيها المثقفون والمثقفات العرب!
8:37 دقيقه
TT
المثقفون والأبراج العاجية!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة