محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

جعجعة بلا طحن

في اجتماعات العمل، نحكم على فعالية المشاركين من نسبة تبني مقترحاتهم أو أفكارهم إلى القرارات المتخذة في نهاية الاجتماع. فإذا تبنى المجتمعون ثلاثة مقترحات لمشارك من أصل 10 مقترحات إجمالية للمجتمعين، فإن نسبة فعالية ذلك المشارك كانت 30 في المائة، وهي نسبة كبيرة جداً، ودليل على أن غياب العناصر الفاعلة عن لقاءاتنا يؤثر سلباً.
وعلى النقيض، هناك من يثرثر طوال الاجتماع، لكن أحداً لن يلتفت إليه حينما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات، لأن محصلة مداخلاته لا تعدو كونها تعليقات هامشية. بعبارة أخرى، تنطبق عليه مقولة «أسْمَعُ جَعْجَعَة، وَلَا أَرَى طَحْناً». والجعجعة هي صوت الطاحونة الحجرية الفارغة التي لا يتمخض عنها طحن، فهو مثل يضرب لمن يتحدث كثيراً ولا يعمل، أو يَعِدُ ولا يَفي بوعده.
والفارغ هو من يحتاج إلى الصوت العالي ليلفت إليه أنظار جلسائه. ولذا يوصف الكلام عديم الجدوى بـ«الكلام الفارغ»، وهي إهانة بالغة لا يدركها الفارغون. ولذا قيل: هناك علاقة طردية بين تدني مستوى الخبرة أو الاطلاع أو الثقافة وبين جعجعة الفارغين، فكلما زادوا زادت الجعجعة المزعجة. ولذا يميل الفارغ إلى ممارسة الدعابة أو الابتعاد عن الجدية حتى لا يكتشف أمره.
وقلة الكلام أصل من أصول الحوار والإقناع، فضلاً عن لفت أنظار السامعين. فحينما يبدأ ذلك الصامت بالتحدث، تشرئب إليه أعناق الحضور، عادة، باعتباره صوتاً جديداً يلج حلقة النقاش. غير أن الصدمة تحدث إذا كان كلامه مجرد جعجعة. فينطبق عليه قول عمر بن الخطاب: أرى الرجل فيعجبني، فإذا تحدث سقط من عيني. ويصبح لسان حاله أيضاً ذلك الرجل المهيب الذي حينما قرر التحدث في مجلس أبي حنيفة، بعد طول صمت، أثنى له العلامة رجله احتراماً للرجل. ولما صُدِم أبي حنيفة من تفاهة طرحه، قال قولته الشهيرة: «آن لأبي حنيفة أن يمد رجله»، وهي إشارة إلى أن الكلام الفارغ لا يلقى احتراماً على مر العصور.
هناك دول تصرح بأكثر مما تفعل. ومن القياديين من لو حسبت نسبة خطبهم ووعودهم البراقة، مقارنة بقراراتهم، ستصاب بصدمة هائلة.
مشكلة التحدث في مجتمعنا أنها نابعة من كوننا مجتمعاً شفهياً، تأصل فيه حب الكلام منذ «سوق الشعر» عكاظ، وما قبله. ونكاد نكون الشعوب الوحيدة التي منحت جائزة «أوسكار الكلام» بتعليق القصائد «الكلامية» على أستار الكعبة، تكريماً لـ«كلام» وليس لابتكار علمي. ولأننا شعب «معجزته» الكلام، الذي لم نعد نحسنه، فقد جاءت معجزة القرآن الكريم من جنس ما نحسن، فلم نفلح في مجاراة حرف من حروفه. ولذا قال تعالى: «لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً».
والجعجعة تبدأ في البيت، حينما لا يدرك الوالدان أن من صلب أدوارهما الإصغاء إلى الأبناء، وليس الاكتفاء بتصدير الأوامر والنواهي، واحتكار الحديث. وتتفاقم الجعجعة حينما يكرس المعلمون أمام طلابهم مبدأ التلقين أو التحدث طوال المحاضرة، ونسيان أهمية الإنصات إلى آراء الطلبة المضادة، وأفكارهم التي تثري الحوار. والأهم تقبلها بصدر رحب، خصوصاً إذا كانت طرحاً موضوعياً. وليرسخوا في أذهاننا أهمية الإصغاء والموضوعية.
وكلما رأيت جعجعة تذكرت أصدقائي الهنود حينما يزعجهم العربي الثرثار، فيقولون بعربية مكسرة: «هذا نفر قرقر واجد»، وهو وصف للمهذار المزعج بنظرهم. وتذكرت أيضاً مسرحية ويليام شكسبير «much about nothing»، التي ترجمت بعنوان «جعجعة بلا طحن»، ويبدو أن ويليام كان يقصدنا!