إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

عن الحيتان والقطط السمان

في الصحافة المصرية، قبل سنوات طوال، سمعنا للمرة الأولى عن القطط السمان. كان المقصود بالتسمية رجال الأعمال الذين ركبوا موجة الانفتاح وتاجروا بكل البضائع وحققوا لأنفسهم ثروات طائلة. سمنوا وتشحّموا وبرع رسامو الكاريكاتير في تصويرهم على صفحات «روز اليوسف». رجال بكروش ونظارات سوداء يدخنون السيغار وينفثون دخانهم في وجوه العباد. وهناك من يقول إننا استوردنا مصطلح «القطط السمان» من يوغوسلافيا، مع الكثير مما نستورد. وفي مقال محفوظ في جعبة «غوغل» نعرف أن الدكتور رفعت محجوب، رئيس مجلس الشعب في الثمانينات، هو أول من استخدم المصطلح، وأراد به الطبقة الطفيلية التي ظهرت في عهد السادات واستمرت في العهد التالي. هل يمكن وقف زحفها؟
كانت القطط مصرية. ثم ظهرت شبائهها على خريطة الوطن الكبير. وهي لا تموء بل تزأر وتفحّ، في هذا البلد العربي وذاك، وتتخذ أسماء جديدة: الديناصورات وحيتان المال والأعمال وأهل «البزنس». وقد أورثت القطط القديمة صفاتها لأبنائها. ثم توسعت رقعة المستفيدين وسمنت قطط جديدة، غالباً على حساب المال العام ومصالح الناس. وكان حسن يوسف، الفنان والداعية، قد عمل فيلماً مع شمس البارودي بعنوان «القطط السمان»، شاركتهما فيه مريم فخر الدين. ذاك زمن وهذا زمن. ولكل عصر قططه.
شبّ الجشع وكبر واكتهل ولم يشِب. وعمره اليوم يقترب من الخمسين. وهو لا يتخذ من الدول الغنية ملعباً له، فحسب، بل يسرح حتى في البلاد الفقيرة. وقبل فترة أعلن الرئيس السوداني عزمه على «ضرب القطط السمان الذين يمصّون الشعب». ووعد بأنه سيعيدها إلى جحورها. وتحمست أستاذة عضو في المؤتمر الوطني وتحدثت عن قضايا فساد بمليارات الجنيهات، وأعلنت: «لقد بلغ السيل الزبى والقط السمين اقطع رقبتو عشان ترتاح».
والسيل تجاوز الزبى عندنا في العراق. لم يعد أحد يخجل من ظهور اسم الوطن في صدر قوائم الدول الفاسدة في العالم. يفسد الهواء واللحمة والبيض ويفسد البشر. قانون الطبيعة يأخذ مجراه من دون حسيب. وقبل أيام ذهبت سبعة مليارات من الدنانير المحفوظة في البنك المركزي طعاماً لمياه الأمطار. اهترأت وتمزقت وأعلن المسؤولون أنهم فرموا ما تلف منها. ومقابل كل ورقة مفرومة تفتحت نكتة سليمة برأس وعينين وأربعة أطراف. نضحك على البلايا والرزايا، واللصوص في غيهم يعمهون. يكتب الشعراء قصائد هجاء، بالفصحى والدارجة، ونشاهد تسجيلات لأناس بسطاء يحاولون أن يثبتوا أن أوراق الدنانير تستعصي على التلف. يحرقونها بالنار تارة، ويلوثونها بالوحل والقاذورات تارة، وبسوائل التنظيف، لكنها تصمد.
تنفجر الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي بعبارات التقريع وتغريدات السخرية ومقالات الغضب. من هو مقاول البناء الذي أنجز سقف البنك المركزي بتلك الرخاوة؟ ثم تشرق الشمس بعد المطر ويخمد كل شيء. لا تتلف سوى أعصاب المواطنين الذين ينتظرون اكتمال نصاب الوزارة من دون حيتان ولا قطط ولا قوارض أو قنافذ. لم يعد أحد ينتظر الوزير المناسب في المكان المناسب، بل الوزير الذي لا يمتلك شهادات مزورة وجيوباً عميقة.
في قديم الزمان كتب الشاعر معروف الرصافي قصيدة كأنها النبوءة، من أبياتها:
هذا العراق سفينة مسروقة
حاقت براكينٌ بها وزلازلُ
هذا هو الأمل المُرجّى صفقة
أثرى بها الوغدُ العميلُ السافلُ
هذي شعارات الطوائف كلّها
وهمٌ سرابٌ بل جديبٌ قاحلُ
هذا هو الوطن الجميل مَسالخٌ
ومدافنٌ وخرائبٌ ومزابل