محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

العنب والناطور والقيادة

يروى أن الأميركيين حينما أرادوا الصعود إلى الفضاء الخارجي، اخترعوا قلم حبر مضغوط بحيث يستطيع رائد الفضاء التغلب على مشكلة انعدام الجاذبية. ورصدوا لذلك نحو مليون دولار. غير أن السوفيات، آنذاك، لم يشغلوا أنفسهم بعناء «إعادة اكتشاف العجلة»، فاستخدموا قلم رصاص يفي بالغرض! وأتخيل لو أن أحداً في «ناسا» اقترح فكرة القلم الرصاص لربما ناله سيل من التندر أو التجاهل من مسؤوليه.
هذه القصة الشهيرة في أدبيات الإدارة تروى في سبيل التهكم أو التعريض بالمسؤولين الذين ينشغلون بالإجراءات، ويعقدون الأمور، وينسون منح العاملين معهم حرية اختيار الطريقة المثلى للوصول إلى النتيجة المرجوة من كلا الطرفين. فعندما يوجه المسؤول العاملين معه في كل صغيرة وكبيرة متناسياً تفاوت عقولهم الخلاقة فهو يقيد الإبداع، ويروّج للمركزية، ويقلب مواجع الإحباط. والأسوأ أن هذا المسؤول ومن هم على شاكلته سيشجعون صفاً ثانياً على الاقتداء بهم من جهة التركيز على النتائج ونسيان البشر وأهمية بناء علاقة وطيدة معهم عبر الاستفادة مما تجود به قريحتهم في تحدياتنا اليومية. فقد تنقذنا فكرة بسيطة من تعقيدات مشروع مكلف لا داعي له.
الصراع الأزلي بين بعض القادة وأتباعهم يتمثل في المثل الشهير «تريد العنب أم قتل الناطور». فهناك من يريد أن يقتل الحارس (الناطور) ليظفر بالعنب. في حين أن الوصول للعنب (النتيجة) أمر سهل لا يتطلب التورط في القضاء على حارس. ويوجد في عالم الإدارة من يجبر الناس على مسلك، وينسى أن هناك خيارات أخرى بسيطة متاحة، لو أنه أرهف السمع جيداً لمن حوله، وتخلى عن عقدة «فهّيم زمانه».
ومن أشهر المحاولات العلمية التي عكفت على دراسة القياديين الفاعلين في مجموعات العمل الصغيرة، ما يطلق عليه «دراسات ميشيغان»؛ إذ توصلت هذه الأعمال الرائدة والكثيرة إلى أن أهم سلوكين يبرزان فاعلية القادة هما: «الاهتمام بالعاملين» و«الإنتاج» (أي المحصلة النهائية المطلوبة). والأهم أنه قد تبين أن الاهتمام بإنتاجية العاملين أو النتيجة النهائية يجب ألا تكون بمعزل عن الاهتمام بالبشر الذين يقومون بتلك المهمة.
وقد كان سائداً في السابق أن القادة الفاعلين هم من يركزون على «النتائج» بمعزل عن جودة «علاقاتهم». غير أنه تبين لاحقاً وفي مناطق جغرافية متعددة، وفق أبحاث ميشيغان، أن الاهتمام بالعاملين لا يعني عدم العناية بالإنتاج بالضرورة، وأن التركيز على ماذا يقدم العاملون لا يكون على حساب العلاقات الطيبة.
فقد ظهر بالفعل أن هناك من نجحوا في عمل موازنة بين كلا الاهتمامين، فأسهم ذلك في بروز سلوك قيادي أكثر فعالية. والسبب أنه لم ينشغل أصحابها بـ«الناطور»، بل بالعنب وهي النتيجة المنشودة. وهذا بحد ذاته يريح العاملين لأنها تشعرهم بأهميتهم وكينونتهم وأنهم يشكلون قيمة مضافة لمن حولهم.

[email protected]