خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

هجاء مقذع

هناك من دون شك اختلافات واضحة بين أساليب الفكاهة العربية والفكاهات الغربية.
من ذلك أبواب في فكاهات الغربيين لا مكان لها في آدابنا العربية. نخص بالذكر منا الكوميديا بشتى فروعها. وفي نفس الوقت لا يعرف الغربيون الكثير من ألوان الهجاء العربي. فنحن قوم عشقنا هذا الولع بالملاسنات والمشاحنات اللفظية.
قلما يوجد بيننا من لا يحفظ شيئا من تراث الهجاء الضخم وكل ما عرفناه من أشعار الحطيئة وجرير وابن الرومي. ولا أدل على الأهمية الخاصة التي أعطاها أجدادنا لهذا اللون من الأدب مما قيل من قيام عمر بن الخطاب بدفع مبلغ من بيت المال للحطيئة، ليشتري منه أعراض المسلمين، ويكفي الناس شر لسانه. وذكروا أن الخليفة سمعه ينشد أشعارا مما قاله في هجاء والدته:

تنحي فاجلسي مني بعيدا
أراح الله منك العالمينا
أغربالا إذا استودعت سرا
وكانونا على المتحدثينا؟
حياتك ما علمت حياة سوء
وموتك قد يسر الصالحينا

وما سمع الخليفة بذلك حتى قال: «أراني قاطعا لسانه. علي بالموسى فهو أسرع!» بيد أن الجالسين توسلوا به أن يتركه، على ألا يعود للهجاء مقابل ثلاثة آلاف درهم. وتمت الصفقة التي ندم عليها الشاعر فيما بعد على ما يظهر مما قاله في هذين البيتين، يخاطب فيهما الخليفة ويقول:

وأخذت أطراف الكلام فلا تدع
شتما يضر ولا مديحا ينفع
وحميتني عرض اللئيم فلم يخف
دمي وأصبح آمنا لا يفزع

ربما كان الحطيئة الشاعر الوحيد في العالم الذي هجا نفسه، بعد ما حار في أمره، ولم يعرف من بقي من الناس ليهجوه. وفي هذه الحالة الكئيبة، نزل ليأتي بشيء من الماء لنفسه، فرأى صورته على صفحة ماء البئر فاستقبح هيئته، وعندئذ جاءه الوحي الشعري:

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما...
بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها قبح الله خلقه...
فقبح من وجه وقبح حامله

وإذا كان الحطيئة وحيد نوعه في هجاء نفسه، فربما كان المتنبي الوحيد بين شعراء العالم في التضحية بحياته ثمنا لنتفة وجيزة من الأبيات، التي هجا فيها شخصا يقال له ضبة:
ما أنصف القوم ضبة... وأمه الطرطبة
وهي قصيدة ضمت من فاحش القول، ما جعل أبا الطيب نفسه يتبرأ منها ويتحاشى ذكرها. ولكن ذلك لم يحل دون تصدي خال ضبة للشاعر في أسفاره واغتياله جزاء لكلمات!