علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

هل مؤلف «القتال في الإسلام» فتوّة أم قاطع طريق؟

كتاب الإخواني أحمد نار «القتال في الإسلام» مكوَّن من إهداء ومقدمة وتمهيد، ومن الموضوعات التالية: «القواعد العليا للقتال»، «الإعداد الأدبي»، «الإعداد الإداري»، «الإعداد المالي»، «المعركة»، «النتيجة»، «بعض الأحاديث الشريفة». ومكوَّن أيضاً من مقدمة قائد التنظيم المسلح السري عبد الرحمن السندي التي أتت في مؤخرة الكتاب، والتي عرضنا بعض ما جاء فيها في المقال السابق.
عند النظر في الكتاب من ناحية تصميم موضوعاته وتقسيمها، ومن ناحية محتواه، ومن ناحية أسلوبه اللغوي تعجب أن مؤلفه أحمد نار قبل أن ينضم إلى «الإخوان المسلمين»، كان مجرد فتوّة كما في رواية الإخواني رشاد البيومي، ومجرد شيخ منصر كما في رواية الإخواني الحاج علي عبد الحليم.
فأحمد نار، كما في الكتاب، متعلِّم قارئ ومثقف مصقول. والفتوات وشيوخ المنصر (كما يعرف المصريون) أناس عوام لا يعرفون شيئاً من الثقافة والأدب والعلم الديني.
إنني استناداً إلى الكيفية التي صيغ بها الكتاب، وإلى الاسم الكامل لأخيه مالك نار الذي ورد في ترجمته، في «ويكيبيديا الإخوان»، وإلى ذكر الشاعر أحمد محمد إبراهيم نار، محل إقامته في إحدى قصائده، وهو منيا القمح، والذي هو نفس محل إقامة أحمد نار المذكور في روايتي رشاد الفيومي والحاج علي عبد الحليم... هي الأشياء التي جعلتني أرجِّح أن أحمد نار «الإخوان المسلمين»، هو صاحب القصائد الأربع المنشورة في مجلتي «أبوللّو» و«الثقافة» في ثلاثينات القرن الماضي.
علينا أن نلحظ أن الإشارة إلى اسمه وإلى ماضيه قبل أن «يتأخون» في رواية رشاد البيومي جاءت على نحو عَرَضي؛ فهي قد جاءت في سياق التعريف بأخيه مالك، وأنها أهملت أهم معلومة عنه، وهو أنه هو مؤلف كتاب «القتال في الإسلام»، وهو الكتاب الذي حفظ اسمه في عداد المؤلفين عن الجهاد الإسلامي في العصر الحديث، وفي وقت مبكر في العالم العربي. وأنها لم توضح ماذا تعني في تعريفها المخِلِّ به، ماذا تعني بقولها: إنه أصبح (جندياً) عاملاً هو وأخوه مالك. فهل المقصود بهذا القول التلميح من بعيد إلى أنه هو وأخاه ضُما إلى التنظيم السري المسلح في «الإخوان المسلمين»؟!
وعلينا أن نلحظ أن رواية رشاد الفيومي نسبت الفضل في إقلاعه عن الفتوة إلى دعوة «الإخوان المسلمين»، في حين أن رواية الحاج علي عبد الحليم نسبته إلى حسن البنا، وأنهما اشتركتا في إغفال أنه ضُمّ إلى التنظيم السري المسلح أو باصطلاح «الإخوان المسلمين»، «النظام الخاص».
إغفالهما لهذه المعلومة مفهوم؛ فإن يكن في ماضيه ما قبل انضمامه إلى جماعة «الإخوان المسلمين» فتوة، أو ما هو أسوأ من ذلك، شيخ منصر، ثم صار بعد اعتناقه دعوة «الإخوان المسلمين»، يعمل في النظام الخاص، فلا غرابة ولا فضيلة في ذلك.
رواية الحاج علي عبد الحليم كانت - على عكس رواية رشاد الفيومي - مفيدة؛ فهي قد أخبرتنا أنه هو صاحب كتاب «القتال في الإسلام»، كما أخبرتنا عن موقع ومكانة كتابه في التنشئة الثقافية والتعبئة العقائدية لدى جماعة «الإخوان المسلمين»، إذ قال إن «الإخوان المسلمين» كانوا يتدارسون كتابه.
الاضطراب في الروايتين هو أن رواية رشاد الفيومي قالت عن أحمد نار: إنه قبل أن ينضم إلى «الإخوان المسلمين» كان فتوة يخشى بأسه حتى شيوخ المنصر، ورواية الحاج على عبد الحليم قالت عنه إنه قبل أن ينضم إليهم كان شيخ منصر.
الحاج علي عبد الحليم معاصر للبنا، وقد جالسه وخالطه بوصفه تابعاً صغيراً له، وهو إلى هذا يبين من روايته، أنه - بالتعبير المصري الدارج - من بلديات أحمد نار، فهو يعرفه شخصياً قبل أن ينضم إلى «الإخوان المسلمين»، بينما رشاد البيومي هو من جيل الخمسينات في جماعة «الإخوان المسلمين». وعليه، سنأخذ برواية الأول بأنه كان شيخ منصر، ولن نأخذ برواية الثاني التي قالت إنه كان فتوة. وفي تقديري أن رشاد البيومي يعرف أنه قيل عنه عند قدامى «الإخوان المسلمين»، إنه كان شيخ منصر، لذا فهو قد تلاعب بما قيل عنه، فجعله فتوة في مواجهة شيوخ المنصر.
محمود عساف عضو النظام الخاص وأمين المعلومات، أو مكتب الاستخبارات في جماعة «الإخوان المسلمين»، الذي كان ملازماً لحسن البنا، والذي كان لا يرى حسن البنا، إلا ويرى معه في تاريخ أقدم من تاريخ روايتي البيومي وعلي عبد الحليم، قال عنه في كتاب مطبوع إنه كان شيخ منصر، ولم يقل عنه إنه كان فتوة. وهذا ما يعزِّز رواية علي عبد الحليم المتأخرة.
تفضل رواية محمود عساف على الروايتين السابقتين أنها تضمنت معلومات أكثر عن ماضي أحمد نار قبل انضمامه لـ«الإخوان المسلمين»، وعن شيء طفيف من الأعمال التي قام بها بعد انضمامه إليه.
يقول محمود عساف في كتابه «مع الإمام الشهيد»، الصادر عام 1993: «كان الأخ أحمد نار - كما قال لي - قاطع طريق... وكان من قرية من قرى منيا القمح بالشرقية. وكان قوياً يهابه الناس جميعاً، وله أتباع يأتمرون بأمره. حضر محاضرة للأستاذ الإمام البنا بمنيا القمح، فأصابه إشعاع من نور... ثم التقى بالإمام بعد المحاضرة، وجلس يتحدث معه».
ثم زاره في المركز العام، وتكررت الزيارات، فإذا بأحمد نار يصير من أعظم الدعاة إلى الإسلام الحق والاهتداء بشريعته، وطوَّع الله لسانه للخطابة فصار خطيباً يأسر الناس بروحانيته العالية. كان يتقن التحطيب (اللعب بالعصا) بحكم سابق خبرته، فصار يعلمنا التحطيب في معسكرات فرق الجوالة بالشرقية. رحمه الله رحمة واسعة، حيث كان مصاباً بحصى في الكليتين، وتوفاه الله في السجن الذي وُضع فيه مظلوماً».
اللافت في رواية محمود عساف أنها أهملت أهم معلومة عنه، وهي - كما قلنا - أنه مؤلف كتاب «القتال في الإسلام». وهذا ما فعلته رواية متأخرة عنها بسنوات كثيرة، وهي رواية عضو مكتب الإرشاد في جماعة «الإخوان المسلمين»، رشاد البيومي.
إن هذا الإهمال وراءه ما وراءه. وإن يكن الحاج على عبد الحليم قد ذكرها، فهذا ما لا يُعتد به، لأنه كما يظهر من اللقاء الصحافي الذي أجري معه، رجل بسيط وشبه متعلم وذو وظيفة متواضعة في جماعة «الإخوان المسلمين» أيام مرشدها.
تبقى قضية: هل أحمد نار صاحب كتاب «القتال في الإسلام»، قبل انضمامه إلى «الإخوان المسلمين»، كان ذا ماضٍ شعري رومانسي مجنح؟!
هذه القضية يحسمها الأدباء والباحثون المصريون الملمون بتاريخ الشعر في مصر في المنتصف الأول من القرن، الذين يشمل إلمامهم بهذا التاريخ، الإلمام بشعر الشداة والمناكير وبتاريخ أصحابه الشخصي.
يحرص «الإخوان المسلمون» على توفير معلومات عن الذين خطوا منهم حرفاً، وإن كانوا ذوي كتابات متواضعة وساذجة، ترفع من شأنهم، ومع هذا، فإنهم صمتوا صمت القبور عن أحمد نار وعن كتابه، مع أن لكتابه أهمية في تاريخ التأليف عن الجهاد الإسلامي في العالم العربي، وله أهمية في تاريخ مؤلفات «الإخوان المسلمين» قاطبة، وكذلك فإن الكتاب هو من بين المصادر التي يُشار إليها في بعض الرسائل الجامعية والكتب التي تبحث في موضوع الجهاد، وذلك منذ عقود قديمة.
بماذا نفسر إعدادهم أخيراً ترجمة لأخيه مالك، وإهمالهم وضع ترجمة له: متى وُلِد؟ وماذا درس؟ وإلى أي مرحلة درس؟ وما عمله؟ وماذا كان دوره في جماعة «الإخوان المسلمين»؟ ولماذا ومتى سُجِن؟ وهل سُجِن في العهد الملكي؟ وماذا كتب؟ ومتى تُوفِّي؟... إلخ.
إن «الإخوان المسلمين» في عقود خلَتْ إلى أول سبعينات القرن الماضي كانوا يحرصون على توزيع كتابه على أتباعهم ومريديهم، لكن من دون أن تقرأ في كتاب من كتبهم إشارة إلى أن مؤلف الكتاب هو من «الإخوان المسلمين»!
يقول محمود عساف في ذلك الكتاب: «قال لي الأخ أحمد نار وهو يرتجف غضباً إن رئيس النظام يقول إن لدعوة (الإخوان) مرشدين؛ مرشداً ظاهراً هو الهضيبي، ومرشداً خفياً هو ذاته. وهذا الموقف منه قد يفسر عداء بعض أعضاء مجلس إدارة النظام للأستاذ الهضيبي، لدرجة أنهم أعلنوا العصيان لأوامره وهددوه، وحرّضوا بسطاء (الإخوان) على الاعتصام بالمركز العام بعد أن سمحت حكومة الثورة بعودة الجماعة».
هذه الحادثة التي يتحدث عنها حصلت عام 1953، فهل كان أحمد نار في ظل الانقسام في النظام الخاص وفي «الإخوان المسلمين»، من المصطفين مع إعلان رئيس النظام الخاص، عبد الرحمن السندي العصيان على قيادة الهضيبي لجماعة «الإخوان المسلمين»، مما أثّر على منزلته عند الجناح المنتصر، جناح الهضيبي؟
هذه المعلومة للأسف لم يوضحها محمود عساف في كتابه.
أم أنهم أخملوا ذكر الكتاب، ولم يعيدوا طباعته مراراً وتكراراً، كما يفعلون مع بقية كتبهم التي هم يحبذونها، لأن مصطفى السندي قد كتب مقدمة له؟
أم أن الأمر يتعلق بمادة الكتاب، إذ إن المدقِّق فيه، ستنكشف له أشياء وأشياء في سبب تأليفه ولأي غاية استُخدِم في العهد الملكي قبل أن يظهر في كتاب منشور. وللحديث بقية.