عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

تجارة ما بعد «البريكست» وفرص العرب

تواجه رئيسة الوزراء تيريزا ماي، ردة فعل سلبية من نواب مجلس العموم، ومن تيارات الاستقلال عن الاتحاد الأوروبي، بتقديمها تنازلات كثيرة لبروكسل تجعل من «البريكست» اسماً فقط، بينما تظل البلاد عملياً رهينة لبيروقراطية بروكسل غير المنتخبة.
الأمر قد يتطور خلال الأيام والأسابيع المقبلة في مجلس العموم، وينتهي بإسقاط السيدة ماي من زعامة الحزب، وبالتالي من رئاسة الحكومة. وقد ينتهي الأمر بهزيمة الحكومة وسحب الثقة، إذا ما نفذ حزب «وحدويو اليستر» (آيرلندا الشمالية)، الذي تحتاج حكومة ماي إلى أصواته لتمرير أي قرار، تهديده بالتصويت ضد مشروع الميزانية هذا الخريف. وقد ينتهي الأمر بانتخابات وحكومة جديدة. وبالطبع الخروج من الاتحاد الأوروبي بلا صفقة، وهو احتمال وارد، يستعد العالم له.
ويري المتفائلون باستقلال بريطانيا عن بروكسل فرصة لتكوين سوق منطقة تجارة حرة مع العالم الأنغلوساكسوني، وهي فرصة طيبة يجب أن يفكر العرب جدياً في التعامل معها لأنها سوق تجارة بتسعة تريليونات دولار.
الساسة البريطانيون المتوجسون من الفيدرالية الأوروبية يشيرون إلى تنامي رأي عام في بعض دول الاتحاد، يشاركهم النظرة إلى مفوضية الاتحاد الأوروبي، كمجموعة «الفتوات» غير المنتخبين الذين يريدون معاقبة الشعب البريطاني، لتجرئه على التصويت بمغادرة الاتحاد الأوروبي.
وجهاء الساسة المتشككون في بروكسل مثل السير برنارد جنكين، والنائب المحافظ أندرو بريدجين، يعتقدون أن المفوضية الأوروبية اتخذت موقفاً آيديولوجياً بعدم التوصل إلى صفقة يعتبرها الناخب البريطاني ناجحة.
ويشير الساسة البريطانيون إلى الضغوط التي تمارسها المفوضية، غير المنتخبة، على الحكومات المنتخبة ديمقراطياً، لمنعها من تنفيذ سياسات صوتت عليها برلماناتها الوطنية، فحكومة المجر تتعرض لضغوط بروكسل لقبول حصص مهاجرين، وهو ما يرفضه الناخب المجري ممثلاً في برلمانه.
وتواجه إيطاليا مشكلة مماثلة مع المفوضية التي تتهم الحكومة الإيطالية بعدم الليبرالية، بسبب رفضها رسو سفن الجمعيات المتطوعة لنقل المهاجرين من البحر؛ كما تلح على المفوضية لتوزيع مئات الآلاف من المهاجرين الموجودين على أراضيها على بقية بلدان الاتحاد.
وتبرز بولندا ساحة مواجهة في الصراع بين السيادة الوطنية والديمقراطية من جانب، والطرق الاستبدادية للجنة الاتحاد الأوروبي على الجانب الآخر. الحكومة البولندية تقاوم تدخل بروكسل في شؤونها الداخلية، حيث سبب تصويت البرلمان البولندي على تعديل سن الخروج على المعاش للقضاة من 70 عاماً إلى 65 عاماً أزمة مع الاتحاد الأوروبي. فالمفوضية ترى في مثل هذا القرار تناقضاً مع الدستور الأوروبي، وهو معاهدة لشبونة، وتريد منع الحكومة البولندية من تطبيقه.
وبينما يدعم البريطانيون تقارب وارسو مع إدارة الرئيس دونالد ترمب، لحمايتهم من الدب الروسي، فإن دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي قلقون من تقارب الأميركيين وبولندا، ويرونه محاولة لتمزيق الاتحاد، الذي تتناقض سياسته مع سياسة الرئيس ترمب بشأن التجارة وتغير المناخ وحزب شمال الأطلسي ودبلوماسية الشرق الأوسط.
وبدا التناقض بين موقف الرئيس ترمب من ألمانيا التي حذرها من الاعتماد على الطاقة من روسيا، وموقفه من بولندا، في خطابه بالأمم المتحدة، واصفاً البولنديين بأنهم «شعب عظيم يقف من أجل استقلاله وأمنه وسيادته»، في إشارة غير مباشرة إلى مقاومة بولندا تدخل المفوضية الأوروبية في شؤونه.
نائبة رئيس الوزراء البولندية السابقة، وعضو المفوضية الأوروبية إليبيتا بييكوفسكا، أعربت عن قلقها من تشابه المزاج العام في بولندا مع نظيره البريطاني عشية استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
ويرى المتوجسون من المفوضية الأوروبية في سياسة ترمب وسيلة دفاع أمام سيطرة بروكسل.
بولندا عرضت على الإدارة الأميركية إقامة قاعدة على أراضيها، وقد خصصت وارسو أكثر من ملياري دولار للغرض هذا، بجانب تناوب البلدان الأعضاء في الحزب إرسال القوات إلى بولندا، التي لها حدود مشتركة مع روسيا. الرئيس ترمب رحب بالأمر، وقال إنه يفكر ملياً في المشروع.
ويرى 70 في المائة من البولنديين أن أميركا أهم حليف يمكن الثقة به في الأزمات، بينما لا يثق بأميركا سوى 35 في المائة من الألمان.
«البريكستيون» البريطانيون يدعون لاستغلال خلاف بلدان أوروبية مع بروكسل، لدعوتهم للتقارب مع أميركا، ومحاولة إنشاء منطقة تجارة حرة موازية.
عضو مجلس العموم المحافظ، دانيال كاوتشينسكي، ينسق مع ساسة في بلده الأصلي، بولندا، لدعوتها مع الأوروبيين الآخرين الراغبين، للتوصل لاتفاقات تجارية مع البلدان الأنغلوساكسونية، الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
وبينما يصل حجم التبادلات البريطانية مع الاتحاد الأوروبي 312.37 مليار دولار، يبلغ حجم التجارة البريطانية مع بقية دول العالم 375.32 مليار دولار، منها قرابة 200 مليار دولار مع البلدان الأنغلوساكسونية. أما إنشاء منطقة تجارة حرة بين البلدان الأنغلوساكسونية المقترحة، أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، فتقدر بتسعة تريليونات دولار (8991 مليار دولار). ويقود اقتراحه إلى الانضمام إلى منطقة تجارة حرة مع البلدان الأنغلوساكسونية.
وتقترع المجموعة الساعية لإنشاء هذه التجارة إلى دعوة تركيا، ويرون في الأصدقاء العرب، خصوصاً في الخليج، أملاً في الانضمام لهذه السوق.
وحتى عام 2016، كان حجم تجارة بريطانيا مع بلدان مجلس التعاون الخليجي 42.41 مليار دولار، بينما يصل حجم التجارة البريطانية مع مصر قرابة أربعة مليارات دولار.
صادرات مشتقات تكرير البترول المصدرة من مجلس التعاون الخليجي، تواجه رسوماً جمركية عالية في السوق الأوروبية، وهي سياسة الحماية التي تمارسها المفوضية لضمان عدم منافسة خارجية لمعامل تكرير النفط الخام في هولندا وإيطاليا. هذا بالطبع يجعل سوق الاتحاد الأوروبي شبه مغلقة أمام منتجات مشتقات البترول من الخليج.
مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي تمكنها من التجارة وفق تعريفات أفضل لبلدان مجلس التعاون، فمعاهدة الاتحاد الأوروبي تمنع بريطانيا من توقيع اتفاقيات تجارة ثنائية خارج بلدان الاتحاد الأوروبي، الذي تحتكر مفوضيته عقد صفقات الدول الأعضاء مع أطراف خارج الاتحاد.
البلدان العربية، خصوصاً مجلس التعاون، تربطها ببريطانيا علاقات تاريخية. وأثبتت الأزمات التزام بريطانيا بأمن الخليج، ووضع الخبرة الدبلوماسية البريطانية في خدمة أصدقائها العرب، كما حدث في أزمة احتلال الكويت.
في زيارتين للمنطقة، أكدت رئيسة الوزراء هذه الالتزامات، خصوصاً تصريحاتها الرسمية عن التزام بريطانيا بأمن الخليج خلال قمة مجلس التعاون الخليجي 2016.
ومن الحكمة أن يأخذ العرب اقتراح إنشاء منطقة التجارة الحرة المقترحة، بعين الاعتبار، ليس فقط لأنها ستكون أكبر منطقة تجارة حرة عالمية فحسب، بل أيضاً لأنها المستقبل.