جاكسون ديل
TT

هل يمكن لأميركا اللاتينية التعامل مع سقوط فنزويلا في غياب واشنطن؟

مع فرار مئات الآلاف من مواطني فنزويلا اليائسين من أوضاع بلادهم المزرية، سيراً على الأقدام من دون وسائل انتقال في كثير من الأحيان، يواجه جيرانهم من قارة أميركا اللاتينية معضلة قاسية واختباراً حاسماً ما إذا كانوا يستطيعون الاستجابة فعلاً لتلك الأزمة التي تهدد استقرار المنطقة من دون اللجوء إلى الولايات المتحدة؟
وحتى الآن، ظهرت أمارات الفشل التام، وهم يدركون ذلك تماماً. ويقول السفير الكولومبي في واشنطن فرنسيسكو سانتوس: «من المؤسف أن نعلن ذلك ولكننا عجزنا عن المواجهة».
ومنذ وصوله إلى الولايات المتحدة قبل عدة أسابيع على رأس البعثة الدبلوماسية الكولومبية الجديدة في عهد الرئيس إيفان دوكي ماركيز، يحاول السفير سانتوس تنفيذ مهمة شبه مستحيلة وهي حض واشنطن على التركيز على أخطر الأزمات السياسية والإنسانية في الأميركتين منذ عقود. وفي ظل الإدارة الكارثية لنظام الحكم الاشتراكي، انخفض الناتج الاقتصادي في فنزويلا إلى النصف خلال السنوات الخمس الماضية فقط. ويقول 60 في المائة من سكان البلاد إنهم فقدوا أوزانهم بسبب نقص الإمدادات الغذائية هناك. وغادر نحو مليوني مواطن، من أصل 31 مليون نسمة هم التعداد الكلي للسكان، البلاد بالفعل، ويتدفق المزيد منهم خارج حدود البلاد بمعدل يفوق 15 ألف شخص كل يوم.
ويقول السفير سانتوس إن كولومبيا تستقبل 5 آلاف من هؤلاء النازحين يومياً، بالإضافة إلى مليون لاجئ فنزويلي موجودين بالفعل هناك. والأوضاع برمتها خطيرة للغاية بالنسبة إلى كولومبيا، الدولة الفقيرة في مواردها والتي تحاول التعافي من عقود طويلة من الاضطرابات المسلحة وأعمال العنف في المناطق الريفية. وقال السفير سانتوس في زيارة سابقة إلى صحيفة «واشنطن بوست»: «من شأن هذا الأمر أن يولد أزمة ذات أبعاد لم يسبق لها مثيل في كولومبيا، وليست كولومبيا فقط هي المتأثرة، وإنما يمكن لحالة عدم الاستقرار الناجمة أن تتفرع إلى كافة أرجاء قارة أميركا اللاتينية».
وما بين عامي 1890 و1990 لم يكن هناك الكثير من التساؤلات بشأن ما يمكن أن يحدث إن اندلعت أزمة بهذا الحجم الهائل في نصف الكرة الغربي: سوف تتدخل الولايات المتحدة على الفور، للأفضل أو للأسوأ على أي حال. وسوف تتوسط في إجراء الانتخابات العامة، أو تدعم جانب المتمردين، أو تؤيد الانقلاب السياسي، أو إن اضطرت إلى ذلك، تتدخل عسكرياً. ولكن على الرغم من بعض الضجيج العابر، فإن الرئيس دونالد ترمب هو آخر رئيس بين ثلاثة رؤساء متتابعين للولايات المتحدة يناور مبتعداً عن مستنقع الفوضى الآسن في فنزويلا. ولقد اتخذت الإدارة الأميركية الحالية بعضاً من التدابير الهامشية، مثل فرض العقوبات على بعض كبار رجال النظام الحاكم، وأسهمت إلى درجة ما في تمويل جهود الإغاثة الإنسانية هناك.
لكن الولايات المتحدة لم تعد تعبأ بالسعي إلى الاستجابة للأزمة في فنزويلا بأكثر من سعيها لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا. وكما هو الحال في الشرق الأوسط، فلقد خلفت واشنطن فراغاً كبيراً يكافح الحلفاء الآن لمحاولة سده في الوقت الذي استغله الخصوم أيما استغلال.
وفي أميركا اللاتينية، تم تشكيل تحالف خاص من 12 دولة في العام الماضي، ليس من بينها الولايات المتحدة بطبيعة الحالة، في محاولة للوصول إلى حل للأزمة. وحاول التحالف الجديد، الذي يحمل اسم «مجموعة ليما»، ممارسة الضغوط على نظام مادورو لإجراء انتخابات رئاسية نزيهة، وعندما فشلت تلك الجهود، أعلنت المجموعة أنها لن تعترف بالنتائج. وأحالت ست دول من أعضاء المجموعة، بمن فيها الأرجنتين، وكندا، وتشيلي، وكولومبيا، مسألة فنزويلا الأسبوع الماضي إلى المحكمة الجنائية الدولية.
بيد أن هذه تعد من التدابير الرمزية إلى حد كبير. ولن تفضي إلى نتيجة فعلية في إضعاف نظام مادورو، الذي تجاوز بالفعل شهوراً من المظاهرات الشعبية العارمة التي سقط خلالها مئات المتظاهرين، وحال دون نجاح خمس محاولات للانقلاب العسكري على حكومة البلاد. وأثبتت أجهزة الاستخبارات الكوبية نجاحها وفعاليتها في القضاء على المعارضة الداخلية: ويعتقد أن هناك نحو 600 ضابط عسكري قيد الاعتقال، والكثير من قادة المعارضة المدنية يقبعون في السجون أو تم نفيهم خارج البلاد.
فما الذي يمكن فعله؟ يعتقد السفير سانتوس أن الحل سوف يستلزم عكساً لمسار التراجع الأميركي عن تولي زمام القيادة الإقليمية. وقال مصرحاً: «يمكنني القول إنه ينبغي على الجانب الأميركي تولي القيادة، وسوف تتبع الكثير من الدول الأخرى الولايات المتحدة في إيجاد حل فعلي لهذه الأوضاع الكارثية في فنزويلا». ومن واقع المسألة العملية، فإن الغزو العسكري الأميركي المباشر ضد فنزويلا هو أمر محكوم عليه بالفشل ولن يُجدي نفعاً. ومن شأنه أن يؤدي إلى الاستقطاب بين بلدان أميركا اللاتينية، وحتى إن كانت المقاومة المسلحة محدودة في حالة كهذه، فسوف يكون من العسير العثور على أو إقامة حكومة بديلة في البلاد. لكن البعض في تلك المنطقة بدأوا يفكرون في سيناريوهات مختلفة وأكثر واقعية وعقلانية: التدخل الإنساني متعدد الأطراف، والذي يمكن أن يأتي تبعاً لانقلاب حكومي داخل قصر مادورو - أو ربما، اندلاع تمرد يائس آخر من قبل السكان المحرومين من الغذاء والدواء والمياه والكهرباء.
وليست الولايات المتحدة مستعدة حتى الآن لمثل هذه الحالات الطارئة بأكثر من استعدادها التعامل مع تداعيات تدفق بضعة ملايين آخرين من مواطني فنزويلا إلى كولومبيا المجاورة. والسفير سانتوس على حق في قوله: لقد حان الوقت فعلاً لبدء العمل على ذلك.
* خدمة «واشنطن بوست»