مايكل شومان
TT

في الحرب التجارية... ماذا يمكن لبكين أن تتعلم من واشنطن؟

عدا الانتقام بفرض المزيد من الرسوم الجمركية، والإعلانات مدفوعة الأجر في مختلف الصحف، لا يزال يتعين على القادة في الصين صياغة استراتيجية لمواجهة تصاعد وتيرة الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ربما هم لا يعرفون على وجه اليقين ما تصبو إليه الإدارة الأميركية المنقسمة على ذاتها وغير المتسقة في قراراتها. أو ربما هم عاقدون العزم على متابعة تنفيذ أجندتهم التجارية الخاصة لدرجة أنهم لم يعودوا يعيرون الأمر اهتماماً بالأساس.
وقد يكون هناك سبب آخر، كذلك، إذ ربما يبدو الرئيس الصيني شي جينبينغ وأقرب معاونيه أكثر بعداً عن الواقع الراهن من أسلافه، وربما أسفر ذلك عن غيابهم التام عن واقع الأحداث الجارية في البلدان الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية. وربما يؤدي بهم الأمر إلى سوء فهم الإشارات التحذيرية ويفضي إلى الوقوع في عثرات سياسية ذات نتائج وخيمة بدرجة تكفي لتهديد الأجندة الدبلوماسية الكبرى لدى الصين.
ويدرك الأميركيون تماماً كيف لمثل هذه الأخطاء أن تحدث. فلقد صاغوا مصطلح «داخل بيلتواي» لاستخدامه في توصيف العاصمة واشنطن ذاتية الاستيعاب، وكيف يمكن أن تنفصل وبصورة مريعة عن العالم الخارجي تمام الانفصال. ولنلقِ نظرة على النتائج الكارثية للدعم الأميركي لشاه إيران الراحل، أو الغزو العسكري الخاطئ للعراق، والذي جاء نتيجة طبيعية لسوء مروّع في فهم الواقع وإدراكه على أرض الحقيقة.
وفي الصين، فإن النخبة السياسية باتت هي أيضاً محصورة بصورة مماثلة ضمن «الطرق الدائرية»، وهي الطرق السريعة التي تحيط بالعاصمة بكين المترامية الأطراف إحاطة السّوار بالمعصم. ويبدو أنهم أُخذوا على حين غرّة بحرب دونالد ترمب التجارية المفاجئة؛ إذ إن العروض المتواضعة التي تقدمت بها بكين في وقت سابق من العام الجاري لدرء مخاطر الرسوم الجمركية عكست مدى ضآلة القدرات السياسية الصينية على تقدير المواقف حيال السخط المتنامي لدى شركائها التجاريين من سياساتها التجارية على الصعيد الخارجي.
ولا يبدو كذلك أنهم يملكون أي خطط لعكس مسار المقاومة المتصاعدة للمبادرة الدولية الرفيعة المستوى التي دشنها الرئيس الصيني، وهي برنامج الحزام والطريق لمشاريع البنية التحتية الهائلة. ويصف الرئيس الصيني الخطة بأنها مساعٍ مفعمة بنكران الذات من أجل السلام والتنمية. وعلى العكس من ذلك، يساور رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، القلق المستمر بشأن النيات الصينية الحقيقية من وراء ذلك البرنامج، محذراً في الآونة الأخيرة من النزعة الاستعمارية الجديدة التي تطل برأسها على العالم.
ولا يصعب بحال الوقوف على كيفية وقوع الرئيس الصيني في فخ هذه الفوضى. فعندما طاف الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ، الولايات المتحدة في جولة عام 1979، شاهد مسابقات الروديو في ولاية تكساس، واستمتع بحفلات الشواء في الهواء الطلق، وتحمل متلطفاً سوء نطق اسمه في غير مناسبة. ومن المستحيل على أي مستوى أن نرى الرئيس الصيني الحالي متلاطفاً مع الأجانب في أي مناسبة كانت. وفي مناسبات شديدة الندرة، ظهر وانغ كيشان، نائب الرئيس الصيني وكبير مستشاريه، خارج برجه العاجي للاجتماع مع رجال الأعمال الأجانب أو الزعماء الحكوميين من الدول الأجنبية، وهو يفضل إلقاء المحاضرات عن الاستماع إلى المحاضرات، ووفقاً لصحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، فإنه قد أصاب بعض ضيوفه بالذهول لغموض موقفه من التعتيم الأميركي تجاه المملكة الصينية الوسطى.
لم يكن الشيوعيون الصينيون من المجموعات التي يسهل الوصول إليها بحال. ولكن عندما بدأت موجة الإصلاح الرأسمالي في ثمانينات القرن الماضي، سعوا وبكل جد للبحث عن الأفكار والخبرات الأجنبية رفقة سعيهم الحثيث لتجديد وإعادة تنشيط اقتصاد بلادهم المحتضر. والآن، أصبح الزعماء الصينيون (وهم على صواب في ذلك) أكثر ثقة بنجاحهم على مدى العقود الأربعة الماضية. وأصبحوا يحددون الكثير من المسارات الخاصة بهم. وكما يلاحظ سكوت كيندي، مدير مشروع الأعمال والاقتصاد السياسي الصيني لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن العاصمة، فإنه «يبدو الزعماء الصينيون الآن أنهم يعتقدون بحيازة كل الإجابات الممكنة على جميع التساؤلات المطروحة، وأن الخبرات الأجنبية لا تقدّم لهم الكثير الآن عن ذي قبل».
ومما يضيف إلى زخم المشكلة، تلك البيئة السياسية الخانقة هناك أكثر من أي وقت مضى. ففي حين أن الدولة السلطوية الصينية فيما مضى لم تشجع أبداً على التفكير الحر، فإن الزعيم دينغ قام، على أدنى تقدير، بتشجيع أعضاء الحزب على «تحرير العقل» واستنباط الأفكار الجديدة الرامية إلى مساعدة الأمة. أما الرئيس الصيني الحالي فقد فرض بدلاً من ذلك على البلاد مناخاً يستلزم توافقاً أكثر آيديولوجية وولاءً أكثر رسوخاً.
ويعني إقصاؤه لمحدوديات المصطلح أن تتوافر لدى مرؤوسيه كل المحفزات لإخباره بكل ما يريد الاستماع إليه دون العكس. وكما ذكرت شبكة «بلومبرغ» الإخبارية مؤخراً، قضى المسؤولون في إحدى الوزارات الصينية الساعات المطولة في حصر الوثائق الهائلة فقط لإثبات أنهم قيد اتّباع توجيهات الحزب الحاكم بكل حرفية ممكنة. ومثل هذا المناخ الإداري الروتيني الخانق لا يحفّز أي مسؤولٍ كان من المستوى المتوسط على تحدي السياسات الرصينة للنظام الحاكم، أو مجرد اقتراح بدائل أخرى، أو محاولة نشر الأنباء «الحقيقية» السيئة على الملأ.
ولا تكمن النقطة في أن القادة الصينيين ينبغي أن يفعلوا ما يمليه عليهم الأجانب، بل يتعلق الأمر عموماً بأن القيادة المعزولة ذاتياً سوف تصارع لتحقيق غاياتها في اعتلاء سدة القيادة العظمى للعالم. وهذا بكل تأكيد من الدروس التي يمكن لبكين تعلمها من واشنطن، حيث أسفرت السياسة الخارجية الصلفة المتعجرفة في كثير من الأحيان، والمحصنة تماماً من الانتقادات الخارجية، عن سقوط الولايات المتحدة الأميركية في غير مستنقع من المستنقعات الخارجية التي كان من الممكن تفاديها تماماً. فإن لم يجازف الرئيس الصيني ومعاونوه بمغادرة الطريق الدائري الخانق في العاصمة الصينية، فلن يتمكنوا أبداً من الإفلات من مشكلاتهم الذاتية.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»