د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا وخذلان النخب المثقفة

على الرغم من أن المثقف لم يعد يلعب سوى دور هامشي في التأثير الشعبي والمجتمعي، لأسباب كثيرة بدءاً من اتساع الفجوة المعرفية بينه وبين المجتمع، التي لم يسعَ المثقف لردمها، بل هناك من المثقفين من أسهم في زيادة اتساعها، لضمان منصب «النخبة» و«النخباوية»، وانتهاءً عندما أصبح لا مبالياً أو مهادناً لميليشيات وعصابات إرهابية دمرت البلاد، وجعلتها ساحة قتال وحلبة رعب، ظهرت علينا أبواق مثقفة تبرر للميليشيات ما تفعل، خصوصاً تلك التي تتبنى منهجاً عقائدياً كميليشيات الإسلام السياسي.
صحيح أن هناك بعضاً من المثقفين واجهوا بعضاً من الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، وكشفوا حقيقتها، إلا أن عددهم بين عدد المتغيبين يكاد لا يُذكر، وبالتالي هناك منهم مَن يشاهد بأم عينه بلاده تُنهَب، ويتآمر عليها التنظيم الإخواني وأشقاؤه، وهم في صمتهم يعمهون، مبررين موقفهم بأنهم يقفون على الحياد لتجنب الفتنة، بينما البلاد تُنهب أموالها وثرواتها.
وهناك من المثقفين من شارَك في تضليل الرأي العام في كثير من القضايا، بل هناك من تستر على الإرهاب وأنكر وجود «داعش»، وتنكَّر لنتيجة الانتخابات، ولم يستفِد من سنوات الغربة؛ فهناك من قضى قرابة نصف قرن في أميركا وبريطانيا، والمفروض أنه يعلم كيف تُدار الانتخابات، نجده يصطف في طابور الرافضين لنتيجة الصندوق الانتخابي.
المثقفون منهم مَن تغرَّب عنها حيناً من الدهر يتغنى بالديمقراطية المفقودة في ليبيا زمن «ديكتاتورية» القذافي. ولما جاءت الفرصة كان أول المتنكرين لنتائج أول انتخابات برلمانية في ليبيا... هو هذا المثقف المغترب.
عندما خذل المثقف مجتمعه في الماضي (زمن الديكتاتوريات) كان عذره المكرَّر الخوفَ من بطش السلطة، ولكن ما العذر اليوم بعد زوال الديكتاتوريات؟ فليس هناك مبرر لخذلان النخبة لوطنهم سوى أنهم فاشلون ولا يُعوَّل عليهم، وإلا فأين هم من المعادلة في ظل تقاسم البلاد وتشظِّي قرارها السياسي، وتحوُّلهم إلى مجرد أتباع وذيول لا يختلفون عمن استأجروا عقولهم؛ البغدادي والظواهري وبديع والقرضاوي، وشهروا سيوفهم في وجه مجتمعهم.
ففي حالة ليبيا، الإرهابي الذي أجَّر عقله لا يختلف عن المثقف الذي صمت أو اتخذ الحياد سبيلاً في ظل وطن يضيع، فالمثقف النخبوي الصامت أو المحايد في قضايا وطنه شريك الإرهابي الذي يدمر ويعبث بوطنه.
التاريخ يعجّ بأمثلة كثيرة على مثقفين ومفكرين عارضوا السلطة عبر التاريخ، منهم سقراط الذي شرب السمّ طواعية، ونيتشه الذي رفض الأعمال الوحشية، وكذلك فعل فولتير، لتظهر صورة المثقف الحقيقي رغم تعريف المناضل والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي سجنه الفاشستي موسيليني، وهو القائل: «إن جميع الناس مفكرون، ولكن وظيفة المثقف أو المفكر لا يقوم بها كل الناس».
فخذلان المثقف وتنازله عن دوره المجتمعي لصالح مصلحته، يشكِّل حالة عجز عنده، مهما كانت المبررات التي يسوقها لتبرئة نفسه، وهذا ما ذهب إليه المفكر جوليان بيندا من أن «ما يعيب مثقفي العصر الحاضر هو تنازلهم عن سلطتهم المعنوية والأدبية».
ففشل الحل السياسي في ليبيا ليس فقط سببه الفوضى والميليشيات، بل خذلان النخبة وحيادها في أحسن الظروف، فهو السبب المباشر في تغول التنظيمات والميليشيات، وانتشار خلاياها السرطانية في جسد ليبيا، دون أدنى درجات حصانة قد تبذلها النخبة الليبية الغائبة والمغيبة.