جعلت روسيا من نفسها مُحَكّماً للأحداث في سوريا. فقد سمح لها تدخلها العسكري واستخدامها القصف المكثف بتغيير ميزان القوى في الميدان وإنقاذ نظام الأسد. لكن نظام الأسد وراعيه الإيراني ليسا غنيمة. في الحقيقة، يهدف الإيرانيون إلى التخلص من جميع آثار النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، وهذا يتماشى مع أهداف فلاديمير بوتين.
بيد أن هدف إيران من تكثيف الضغط والتهديد لإسرائيل لا يتفق مع وجهة نظر بوتين. هذا هو السبب وراء ترك الروس حرية التصرف للإسرائيليين، حتى الآن على الأقل، في ضرب أهداف إيرانية وتابعة للميليشيات الشيعية في سوريا. والسؤال هو ما إذا كان ذلك سيستمر الآن بعد أن خسر الروس طائرة وخمسة عشر رجلاً من رجالهم.
تُحَمّل وزارتا الدفاع والخارجية الروسيتان إسرائيل المسؤولية؛ لأنهما قالتا إنها شنت هجمات على أهداف سورية في اللاذقية حينما كانت الطائرة الروسية في المنطقة. وعندما أطلقت الدفاعات الجوية السورية سيلاً من الصواريخ رداً على ذلك أصابت الطائرة الروسية. وبينما تحدث بوتين عن أخطاء عدة أدت إلى إسقاط الطائرة؛ مما يتضمن تحميل المسؤولية للإسرائيليين والسوريين وقواته العسكرية، أوضح الوفد العسكري الإسرائيلي الذي ذهب إلى موسكو، أن الطائرات الإسرائيلية كانت في الواقع قد عادت إلى إسرائيل عندما أُسقطت الطائرة الروسية.
يجب وضع نقطتين في الاعتبار هذه المرة؛ أولاً، وضع الروس أنفسهم في وسط الصراع. وبذلك لا أشير إلى الحرب في سوريا فحسب، بل أيضاً إلى طريق التصادم بين إيران وإسرائيل. وتصمم إيران على أن تصنع في سوريا ما صنعته في لبنان: السيطرة على الحكومة وأكثر من مائة ألف صاروخ. وتصمم إسرائيل من جانبها على منع ذلك. وحتى الآن، يترك الروس لكل من الإسرائيليين والإيرانيين حرية التصرف. وذلك يؤدي إلى النقطة أو السؤال الآخر. هل سيسعى الروس الآن إلى تقييد حرية الحركة الإسرائيلية؟ وإذا فعلت، هل ستسعى إيران إلى استغلال هذه الانفراجة الممكنة لإرسال المزيد من الصواريخ المتقدمة إلى سوريا؟ بالفعل، يشير الجيش الإسرائيلي إلى أنه سوف يشن ضربات إذا اقتضى الأمر لمنع عمليات توصيل الأسلحة الإيرانية، وتطوير البنية التحتية العسكرية.
يخلو هذا النقاش من الولايات المتحدة. على مدار التاريخ، كان موقف إسرائيل أنها يمكن أن تتعامل مع أي تهديدات إقليمية بمفردها، لكنها كانت تعتمد على الولايات المتحدة لمواجهة أو منع أي تصرفات أو تهديدات من دول خارج المنطقة. واليوم، لم تترك إدارة ترمب الإسرائيليين لمواجهة الإيرانيين والميليشيات الشيعية في سوريا فحسب، بل للتعامل مع الروس كذلك.
والمفارقة، أن تصرفات الجيش الإسرائيلي تعطي للولايات المتحدة نفوذاً مع الروس يجب أن تستغله إدارة ترمب. فيجب أن تنقل إلى بوتين رسالة أن روسيا الآن عالقة في المنتصف في سوريا. والولايات المتحدة مستعدة للمساعدة على تخفيف حدة الموقف والعمل مع روسيا بشرط أن تعمل روسيا على فرض سلسلة من الخطوط الحمراء على الإيرانيين في سوريا. ويجب أن يتضمن ذلك عدم وجود قواعد عسكرية لإيران أو الميليشيات الشيعية في سوريا، وعدم تقديم صواريخ أرض - أرض للقوات السورية أو الإيرانية في سوريا؛ وعدم وجود مصانع في سوريا أو لبنان يمكنها تصنيع نظم توجيه متقدمة للصواريخ الموجودة في الدولتين، وتوفير مناطق عازلة خالية من القوات الإيرانية أو الميليشيات الشيعية في مواجهة إسرائيل والأردن وتركيا.
هل يستطيع الروس فرض هذه القيود؟ هم بالتأكيد يملكون نفوذاً لفعل ذلك. لننظر مثلاً إلى التأثير الذي سيقع إذا قال الروس إنه إذا لم يستجب الإيرانيون، أو إذا انتهكوا هذه القيود، فلن تفعل روسيا شيئاً لعرقلة العمليات الإسرائيلية، وأنها لن تُشَغِل أجهزة رادار الدفاع الجوي لديها في أثناء هذه العمليات، ولن تقدم غطاءً جوياً لأي عمليات أو تحركات تقوم بها القوات الإيرانية أو الميليشيات الشيعية أو الجيش السوري، ولن تسمح للقوات الإيرانية أو الميليشيات الشيعية بالتمركز قرب القواعد الروسية.
ونظراً للردود الصارمة التي صدرت من وزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين للإسرائيليين إثر إسقاط الطائرة، والتي لم تهدأ حتى بعد تصريح بوتين الأكثر اعتدالاً الذي أشار فيه إلى وقوع عدد من الأخطاء، يبدو أنه من المحتمل أن تواجه إسرائيل مساعي من الجيش الروسي لفرض بعض القيود على أين ومتى وكيف يمكن أن تعمل إسرائيل. على الأقل من المرجح أن يُطلَب من إسرائيل إرسال إنذار مسبق إلى الروس قبل أي ضربات. لكن، ألن يُنَبّه الروس فعلياً السوريين والإيرانيين بمثل تلك التحذيرات؟
لن يساوم قادة إسرائيل على قدرتهم على منع إيران من إنشاء ممر بري عبر سوريا، ولن يقبلوا نقل أنظمة سلاح جديدة نوعياً من إيران من شأنها أن تمثل تهديداً لا تقبله غير الدولة اليهودية. وهي القدرة التي سيكون عليها التخلي عنها.
نصيحتي هي أن إدارة ترمب تحتاج إلى الخروج من الهامش واستغلال النفوذ الذي تملكه. ينبغي أن تُذَكّر الروس بالمخاطر التي ربما يتعاملون معها الآن، وأننا على استعداد للعمل معهم في سوريا، لكن المقابل هو وضع قيود حقيقية أمام الإيرانيين. نعم، لا يستطيع الروس ولن يحاولوا إجبار الإيرانيين على الرحيل. لكن يمكنهم فرض قيود - بل حتى فرض قيود متبادلة يمكن أن توقف فيها إسرائيل غاراتها في مقابل تنفيذ إيران للتعهدات المذكورة آنفاً.
ربما يتم استخدام مثل تلك الخطوط الحمراء لإطلاق عملية سياسية في سوريا. ولن يتغير أي شيء في سوريا في أي وقت قريب، لكن ليس من السيئ البدء بالخطوات التي توقف المسير نحو صدام إسرائيلي - إيراني.
* خاص بـ «الشرق الأوسط»
8:59 دقيقة
TT
نظام الأسد وراعيه الإيراني ليسا غنيمة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة