إميل أمين
كاتب مصري
TT

القوة الناعمة السعودية... انتصارات في القارة الأفريقية

على عكس تيار الخلافات والمشاحنات، الحروب وأخبارها، والموت الذي أضحى في أفريقيا عادة، ها هي القيادة السياسية الحكيمة للسعودية بريادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تحرز نجاحات على صعيد إفشاء السلام في منطقة كثر فيها الخصام، واستفحلت عبرها الشرور لأسباب داخلية وخارجية، وتنزع فتيل الانفجار عن منطقة القرن الأفريقي، التي اكتسبت أهمية خاصة في العقدين الأخيرين بنوع خاص.
لم تكن النجاحات التي حققتها الدبلوماسية السعودية الأيام القليلة المنصرمة عبر إرساء قواعد للسلام بين إثيوبيا وإريتريا من جهة، ثم إريتريا وجيبوتي من جهة ثانية، سوى حصاد جهود حثيثة ومضنية بدأتها المملكة منذ سنوات بعيدة، انطلاقاً من قناعات راسخة مفادها حتمية سيادة السلام بين الأمم القريبة جغرافياً وديموغرافياً، ونشر الأمن والأمان، كشرطين رئيسيين لتحقيق التنمية والازدهار، في منطقة عانت ولا تزال من الآثار السلبية للرؤى البراغماتية والإمبريالية للقوى العظمى، والتي لا تقيم وزناً إلا لمصالحها بالمفهوم المادي الضيق، وبعيداً عن أي اقتراب من المعيار القيمي، أو الموازين الأخلاقية التي تنظر لسكان القرن الأفريقي بوصفهم بشراً لهم الحق في الحياة لا في الموت فحسب.
بدأت علاقة المملكة مع تلك المنطقة المصابة بداء الصراعات الأهلية والقبلية من الصومال، الذي قدمت له المملكة وطوال عقدين من الزمن الدعم السياسي والاقتصادي، وبذلت الجهود الحثيثة لإنهاء الحرب الطاحنة الدائرة هناك، الأمر الذي أدى في نهاية المسار إلى توقيع اتفاقية للمصالحة بين الأطراف والأطياف الصومالية المتناحرة، العام 2007 في جدة، تحت رعاية الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله.
حين تتحدث وسائل الإعلام العالمية عن دور السعودية في «بعث رياح الأمل في القرن الأفريقي»، فإنها تلفت الانتباه إلى إشكالية أممية معاصرة، تتمثل في تكالب الأمم على تلك البقعة الأفريقية التي تشرف على بحر العرب شمال غربي المحيط الهندي، والبحر الأحمر ومضيق باب المندب، وكلها باتت تمثل نقاطاً ساخنة وملتهبة، ولهذا تصارع الأقطاب القائمة والمقبلة على إقامة قواعد عسكرية خاصة بها هناك، ما يعني دون مداراة أو مواراة، عودة الاستعمار من الباب بعد أن خرج من الباب الأفريقي، في نصف القرن الماضي.
وعندما تبادر الدبلوماسية السعودية إلى أخذ زمام المبادرة والغوص بعمق في لجج شائكة من الأزمات في القرن الأفريقي، فهي تدرك إدراكاً كاملاً ثقل المسؤولية، غير أن نواياها السليمة والسديدة تُكسِبُ وساطتها بعداً حيادياً، يجعلها محبوبة ومرغوبة، وتستدعي الإيجاب من القاصي والداني.
ولعل القارئ غير المتخصص تغيب عنه الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي، التي أضحت منطقة مصالح حيوية بالنسبة للدول الصناعية، سيما أن إشرافها على الممرات المائية السابق الإشارة إليها، يجعلها شاهداً على الكثير جداً من حركة العالم التجارية والعسكرية. وقربها من منابع النفط في منطقة الخليج العربي عامة، والمملكة العربية السعودية، يضيف إليها أبعاداً حيوية وعالمية جديدة.
من قبل أشرنا إلى أن التاريخ لا يكرر نفسه، لكن أحداثه تتشابه، ويبدو أن هذا ما تجري به المقادير على أراضي القرن الأفريقي في السنوات الفائتة، ففي سبعينات القرن العشرين وأثناء الحرب الباردة شهدت منطقة القرن الأفريقي تنافساً شديداً بين موسكو وواشنطن، وحروباً بالوكالة بين الطرفين.
فيما الآن وفي زمن ما بعد النظام العالمي الجديد، حيث اللانظام يكاد يصم حال الكرة الأرضية، باتت دول القرن الأفريقي فضاء مستباحاً للصينيين والأوروبيين، للأميركيين والروس.
على أن بعداً آخر لا يمكن إنكاره فيما يخص القرن الأفريقي ويتصل بالأطماع والأوهام الإيرانية، ومن ورائها الإرهاصات القطرية الجوفاء، وكلاهما يترك علامة وانطباعاً سلبيين على الحجر والبشر معاً هناك.
أما إيران فهي تحاول جاهدة ومنذ فترة بعيدة إيجاد موطئ قدم لها على الساحل الأفريقي، يمكنها من تحقيق أكثر من هدف استراتيجي، فمن جهة تهيئ لها أحلام اليقظة أنها ستضحى إمبراطورية كبرى ذات يوم، وعليها توسيع تخومها في الداخل الأفريقي، حتى وإن كان ذلك عبر دعمها للإرهاب، ونشرها للتشيع، وتلاعبها على حبال المتناقضات الجيوبولتيكية أفريقياً.
ومن جهة ثانية بالشراكة مع الأموال القطرية تعمل طهران وعبر القرن الأفريقي على زعزعة الأمن القومي العربي، سواء اتصل ذلك بالأوضاع في اليمن ومحاولة دعم الحوثي وميليشياته لقض مضاجع أهل الخليج العربي، والسعوديون في المقدمة، أو للضغط على شريان الحياة المائي لمصر المتمثل في نهر النيل والألاعيب الجهنمية دائرة هناك منذ زمن بعيد، وحتى قبل أن تظهر إشكالية سد النهضة إلى الوجود، فالأيادي السوداء عينها تحاول استغلال تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية أفريقياً لتنفيذ خطة «شد الأطراف» المعروفة تاريخياً.
تجيء المملكة العربية السعودية في هذه الأوقات الحرجة بل والحساسة لتملأ مربعاً فارغاً من مربعات القوة يمكن للكارهين والحاقدين عبر الأجيال للعرب أن يملأوه، وهي بهذه الأفعال المقدامة والخلاقة، تطرد مساحات عريضة من الخوف خارج أطر التأثير على الذات العربية، وفي هذا انتصار كبير لو يعلمون.
ذات مرة في أواخر القرن التاسع عشر تحدث رالف والدو إمرسون الشاعر والفيلسوف والأديب الأميركي بالقول إن «السلام كالحرب... معركة لها جيوش وحشود وخطط»، وهذا يوضح لنا مقدار جسامة المعركة التي خاضتها المملكة في السنوات الماضية، لتصل إلى النجاحات الآنية في القارة الأفريقية.
نجحت المملكة في بلورة نموذج عربي إسلامي للقوة الناعمة؛ نموذج باتت تثمنه القيادات العالمية وعلى رأسها الأمين العام للأمم المتحدة.
«الحرب والسلام»، ليست رواية للمبدع الروسي الكبير ليو تولستوي فقط، إنها سيرة ومسيرة البشرية، وبقدر ما يمكن للمرء وضع الحرب وداعميها في أسفل جحيم دانتي أليغييري، بمقدار ما يقدر لنا تطويب صناع السلام.