بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

ربع قرن ضائع

لعل الأهم مِن تبادل التلاوم حول مَنْ أضاع احتمال السلام طوال ربع قرن ولّى، هو التأمل فيما ضُيِّع مِن فرص تعايش بين غالبية عظمى في الشعبين، الفلسطيني والإسرائيلي، تتطلع للعيش بوئام، تماماً مثل غيرها من شعوب أخرى في جهات الكوكب الأربع، عانت ويلات الصراع، ودخلت في حروب أنهكت أجيالها جيلاً بعد آخر، حتى أفاقت على حقيقة أن نار الحرب لن يطفئها سوى إخلاص النيّة من قِبل ساستها في التوصل لسلام عادل. الخميس الماضي مرت خمس وعشرون سنة على ما أطْلق عليه «اتفاق أوسلو». انشغل بالتعليق على المناسبة كثيرون. أمر مُتوقع، ليس من غبار عليه. إنما، لن يغيب عن رادار أي مراقب متابع كيف أن أغلب المتعاطين مع ما انتهت إليه المفاوضات بين فريق ياسر عرفات، وطاقم إسحق رابين، في عاصمة النرويج، يضع جانباً حقيقة أن ما تم التوصل إليه هو «إعلان مبادئ» وليس «اتفاق سلام».
ربما حصل هذا اللبس نتيجة فهم مغلوط، وربما هو نتاج سوء قصد لهدف محدد، خصوصاً عند النظر في مواقف الزعامات السياسية في معسكر التطرف على الضفتين الفلسطينية والإسرائيلية. بدا من الواضح، منذ الساعات الأولى التي أعقبت حفل نهار الاثنين 13-9-1993 في حديقة البيت الأبيض، أن خصوم أي تقدم ممكن في طريق أي تصالح يؤدي إلى تعايش فلسطيني - إسرائيلي، أصروا على التعامل مع ما وقع عليه كلٌ من محمود عباس وشيمون بيريز في واشنطن كما لو أنه معاهدة سلام شامل، ومن ثم سارعوا إلى تجييش عواطف بسطاء الناس، غير الملمين بدقائق التفاصيل، ضد ما سموه على الضفة الفلسطينية «اتفاق سلام» يفرط في حقوق الفلسطينيين المشروعة، وأن إسقاط هكذا تفريط هو واجب بمثابة الفرض لإنقاذ القضية الفلسطينية من التصفية. في المقابل، على الضفة الإسرائيلية، سارع المستوطنون ودهاقنة التطرف اليميني فسموه «اتفاق سلام» يعرض أمن إسرائيل للخطر، بل يهدد استمرار وجودها برمته، لذا آمن إيغال عامير، المستوطن المتطرف، عندما أطلق الرصاص على إسحق رابين (4-11-1995) باعتقاد أنه يؤدي واجب إنقاذ «أرض الميعاد» من الضياع.
إنما إذا بدا من المتوقع أن تتخذ قوى التطرف على الضفتين، الفلسطينية والإسرائيلية، هكذا مواقف، ألا يبدو من المفزع أن صميم مبادئ «إعلان المبادئ» ذاك تعرض هو ذاته لاغتيال بطيء، وإنما ممنهج، مِن قِبل مَن يُفترض أنهم مؤتمنون على تنفيذه؟ بلى. سوف يكون مثيراً لضحك يمتزج بالبكاء إذا قيل، في معرض الإجابة عن السؤال، إن الطرف الفلسطيني هو المسؤول عن وضع عقبات أمام تنفيذ مبادئ أوسلو. ألم يُقَل منذ زمن بعيد إن التاريخ يكتبه المنتصرون، والسلام يصنعه الأقوياء؟ نعم، فمن المنتصر، إذنْ، في حرب 1967، التي احتلت الأراضي الفلسطينية موضوع إعلان المبادئ ذاك، ثم من الأقوى في معادلة القوة والضعف، فلسطينياً وإسرائيلياً؟ ليس الأمر بحاجة إلى ذكاء خارق، ولا للتحاجج لدى أي مؤرخ منصف، بل هو واضح كما شمس الصحراء في رابعة النهار، الطرف الإسرائيلي هو المنتصر، وهو الأقوى عسكرياً واقتصادياً وتقنياً في الداخل، ثم نفوذاً في كبريات العواصم العالمية. نعم، الفلسطينيون أقوياء بما هو موّثق بشأن الحق الفلسطيني بالمحافل الدولية، بل هم يستمدون الثبات على حقوقهم، في الأصل، من نبع الإيمان بتجذّر تلك الحقوق في تراب أرضهم، لكن ذلك كله لا يكفي لدحر احتلال ولا للحصول على مقعد دولة بكامل العضوية في الأمم المتحدة، كما هو حال دولة إسرائيل.
لقد كان بوسع ساسة تل أبيب، بمختلف أطيافهم، بمن فيهم الطرف الذي صنع إعلان أوسلو، لو أخلصوا النيّة، أن يجعلوا مما وُقِع عليه في واشنطن قبل خمس وعشرين سنة، محطة انطلاق قطار سلام يمضي بسرعة الواثق على سكة من حديد الإرادة. ذلك وحده كاف لأن يفتح الطريق. أما قيل في الأمثال: إنْ وُجدت إرادة، وُجِد طريق؟ بلى. مؤسف أن يضطر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي آمن بما وقع عليه، ودافع عنه، للقول أمام ضيوف إسرائيليين إن إعلان أوسلو مات. مفجع أكثر أن تصب إدارة الرئيس دونالد ترمب المزيد من الوقود على حطب الصراع بدل أن تسهم فعلاً في البناء على ما تحقق قبل ربع قرن. حقاً، ربما يضيع الزمن، إنما الحقوق ليست تضيع أبداً.