سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الزعيم والإنسان: لسانك وأذنك

في حياة الزعماء إنسان يشبه الذات. مهنة صعبة ومعقدة وخطرة أحياناً، اسمها المترجم المحلف. إنه ناقل الأسرار الكبرى، لكن مثل آلة: عليه أن يسمع جيداً ثم عليه أن يتظاهر بأنه لم يسمع شيئاً. يجب أن ينسى كل ما سمع وما نقل لأنه، في الحقيقة، لا وجود له!
إذا تبادل زعيمان التهديد بالحرب، وإذا تبادلا النكات، عليه أن يترجم من دون أي انفعال. وممنوع عليه أن يخطئ في تفسير، أو أن يحذف، أو أن يخفف من لهجة، أو يزيد في حدتها. يروي منصور الخريجي، مترجم الملك فيصل بن عبد العزيز، أنه كان في سيارة واحدة مع الملك وشاه إيران، عندما شعر بالحر فمدّ يده وفتح النافذة. وقال له الملك، هذه سيارة الضيف والمضيف.
وكان من أشهر المترجمين العرب في البيت الأبيض الأستاذ كميل نوفل، الذي وضع كتاباً عن تجربته. لكن لا أسرار في الكتاب. وقبل نشره كان لا بد أن يطلع الحكومة الأميركية على المخطوطة؛ لأن المادة ملكها، لا ملكه. وعن المآزق التي واجهته أن رئيس دولة عربية قال للرئيس ليندون جونسون: أنا عاتب عليك، وراح نوفل يفتش عن كلمة عتب بالإنجليزية فلم يجدها، ولا وجد مرادفاً دقيقاً لها. وفي النهاية شرحها وشرح الهدف منها، وأنها مودة، لا زعلاً. عمل الزميل شوقي الريس طوال سنين مترجماً محلفاً للملك ورئاسة الوزراء في إسبانيا. وذات مرة جاء مسؤول عربي لمقابلة رئيس الوزراء غونزاليس، فلما رأى عربياً حاضراً، عزف عن الموضوع الذي جاء من أجله.
صدر مؤخراً بالإنجليزية (بعد سنوات من صدوره بالألمانية) كتاب «مع هتلر وموسوليني: مذكرات مترجم نازي» للضابط الألماني أوجين دولمان، الذي تولى الترجمة بين زعيمي المحور طوال الحرب العالمية الثانية. تجربة لا شبيه لها في هذا المجال. وبعد هزيمة ألمانيا حافظ الأميركيون على دولمان، لأنه كان كنزاً من الأسرار بالنسبة إليهم، وخصوصاً في قراءة طباع الرجلين.
لم تكن اللقاءات كثيرة بين الدوتشي الإيطالي والفوهرر الألماني، لكن دولمان كان يقوم بالترجمة أيضاً بين أركانهما من كبار الجنرالات. ويصف بسخرية وإعجاب كيف كان الجنود يهتفون بصرخات مدوية في ساحات القتال للزعيمين اللذين لم يصلا إلا إلى رتبة عريف أثناء خدمتهما في الجيش. وبصفته مترجماً حضر اللقاءات والحفلات والمآدب وشهد تكاذب الحلفاء فيما بينهم. وكان الألمان يزدرون الإيطاليين لأنهم جنود سيئون، والإيطاليون يزدرونهم لأنهم بلا ثقافة فنية. وكان موسوليني يتلو دائماً أجمل الشعر فيضطر هتلر إلى استيضاحه، معترفاً بمحدوديته.
إلى اللقاء...