علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

«الإخوان المسلمون»: العقدة والفجيعة

إن الدكتورة حياة اليعقوبي حتى لو لم ترجع إلى المصادر التي ذكرتها لها، كان عليها في قراءتها للرسائل الثلاث أن تلحظ أن رسالة حسن البنا في الجهاد قد زج بها بين رسالتي المودودي وسيد قطب في الجهاد، إذ لا يوجد تناسب وتناسق بينها وبين رسالتي أبي الأعلى المودودي وقطب في الجهاد من ناحية الفكرة والمضمون. وكان عليها أن تلحظ أن كلام سيد قطب في الجهاد مستنسخ من رؤية المودودي للجهاد.
وهنا سأناقش الاحتمال الآخر الذي شرقت فيه وغربت بعيداً عن السبب البسيط الذي ذكرناه.
لا صلة لما قاله المودودي في الجهاد ولما تابعه سيد قطب فيه، بما قال حسن البنا عن الجهاد. وعليه كيف تكون رسالة المودودي - كما ذهبت - رسالة تأطيرية لرسالة البنا في الجهاد؟! وكيف تكون رسالة تأطيرية لرسالة سيد قطب في الجهاد، وسيد قطب في رسالته ليس إلا مستنسخاً لقول المودودي في الجهاد؟!
إن رؤية المودودي وتأويله للجهاد، كانت رؤية وتأويلاً جديداً على العالم الإسلامي، وهي الرؤية والتأويل الذي قدمه في كتابه «الجهاد في الإسلام» الذي ألّفه خلال عام 1926، وعمره لم يتجاوز 23 سنة، ونشره في كتاب عام 1927. وقد تحدثنا عن سبب تأليفه لهذا الكتاب في مقال «انقلاب قدم من مسلمي الهند».
وهذه الرؤية والتأويل كررهما في المحاضرة التي ألقاها في عام 1939، وهي المحاضرة التي قلنا عنها، إنها مستخلص من بعض ما جاء في ذلك الكتاب.
ويسعنا أن نقرر أن إسلاميي القارة الهندية تأثروا في نظرتهم للجهاد بالكتاب الذي نشر في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وأن إسلاميي البلدان العربية تأثروا بالمستخلص منه الذي ترجم إلى العربية في أول خمسيناته. وأن سيد قطب كان له دور أساسي في مد هذا التأثير وتعميقه في كتابيه المقروئين: «الظلال» و«المعالم».
إن حسن البنا لا يعرف شيئا عن تلك الرؤية وذلك التأويل، لأن المستخلص قد نشر بالعربية بعد اغتياله.
أسباب زج «الإخوان المسلمين» رسالة حسن البنا «رسالة في الجهاد» بين رسالتي المودودي وسيد قطب في الجهاد، أن البنا رجل «عمل وتنظيم» وليس رجل «فكر وتنظير». فهو على المستوى الأخير سطحي ومبسّط كبير، لضعف ثقافته الدينية وضعف ثقافته العلمانية. وبسبب هذا الضعف لم تكن لديه موهبة المحاجة والمجادلة الفكرية والتنظيرية وملكة وتوليد الأفكار، ولا يتوفر على القدرة على كتابة مقال ذي مستوى، وبحث ذي وزن.
إن «الإخوان المسلمين» - لإعجابهم وافتتانهم وتقديسهم له - يعاندون هذه الحقيقة الواضحة، فيصرون على أنه رجل عمل وتنظيم ورجل فكر وتنظير. فرأوا أن زج رسالة البنا في الجهاد بين رسالتي المودودي وسيد قطب في الجهاد تجعله في مصافهما في الفكر والتنظير، وهما المشهود لهما بالثقافة والتحليق في التنظير. هذا هو السبب الأول.
السبب الثاني، ادعاء الانسجام والتناغم ما بين البنا وسيد قطب والمودودي على مستوى الأفكار وادعاء أن منطلقاتهم ومصادراتهم المنهجية في التنظير هي واحدة عند الثلاثة، وأنهم مدرسة واحدة متصلة، فضل الأولوية والسبق فيها لإمامهم ومرشدهم حسن البنا.
السبب الثالث، أن «الإخوان المسلمين» يعرفون أن كتاب «مجموعة رسائل البنا» كان لا يجد إقبالاً عليه في القراءة حتى عند أبناء الحركة الإسلامية. وهذا يرجع إلى أن البنا كاتب شديد العادية، وكاتب غير جذاب. وكذلك لأن رسائله ليست فيها فوائد علمية تستحق أن يعود القارئ إليها بين حين وآخر. فقدروا أن دس رسالته في الجهاد بين رسالتي المودودي وسيد قطب في الجهاد قد تغري بقراءتها.
ولتوضيح أكثر لعظم تلك العقدة النفسية عند «الإخوان المسلين»، سآتي بمثال متأخر لها.
بعد وفاة أبي الحسن الندوي ألّف يوسف القرضاوي كتاباً عنه اسمه «أبو الحسن الندوي كما عرفته». وتحت عنوان «أبرز الشخصيات المعاصرة التي أثرت في حياته» جعل من حسن البنا الشخصية الثانية التي أثرت فيها، اعتماداً على شواهد متهاوية ومتهافتة.
إن الندوي حين قدم لكتاب البنا «مذكرات الدعوة والداعية» في طبعته الثانية عام 1966 رغم حفاوته واحتفائه بشخصية البنا، لم يذكر أنه من الشخصيات التي أثّرت في حياته. ومما يتميز فيه الندوي عن المفكرين والمثقفين والكتاب الإسلاميين أنه في بعض أعماله خدم تاريخه الشخصي، وخدم تاريخ الحركة الإسلامية في المشرق العربي منذ منتصف القرن الماضي.
وفيما يتعلق بتاريخه الشخصي، نحن نعرف من خلال تلك الأعمال، الشخصيات والحركات الدينية التي تأثر بها والكتب التي أثرت به، والكتب التي أعجب بها سواء قبل اكتمال شخصيته الدينية والثقافية والعلمية أو بعد اكتمالها، وليس في أي منها إشارة إلى أنه تأثر بحسن البنا، سيرة وعملاً، أو تأثر بقراءة أي عمل من أعماله المحدودة، أو تأثر بدعوته، دعوة الإخوان المسلمين، أو تأثر بقراءة كتاب من كتبها الأولى، ولا إشارة إلى أنه وقع على كتاب من كتبها الأولى، فأعجبه. وكذلك لا توجد فيها إشارة إلى أنه تأثر بدعوة دينية ما في العالم العربي.
نحن نعرف كل هذا قبل أن يكتب سيرته الذاتية المفصلة في كتابه «في مسيرة الحياة». ويعرفه على نحو أوفى يوسف القرضاوي، لأنه ممن تتلمذ على كتبه وعلى رسائله وعلى مقالاته؛ وكل كتبه ورسائله ومقالاته.
أنْ لا ينص الندوي في أعماله المومأ إليها على أنه تأثر بحسن البنا وبدعوته، دعوة «الإخوان المسلمين»، فهذا خطب يستوجب عند «الإخوان المسلمين» الحرقة والمرارة ومع هذا يمكن أن يتحملوه ويصبروا عليه. لأن عدم النص على التأثر يبقي على إمكان للادعاء والتلفيق وعلى مساحة للاختراع والتزوير بعد وفاته، لكنه في تلك السيرة التي أخرجها في أواخر ثمانينات القرن الماضي، أفجع وأجزع القرضاوي وكل «الإخوان المسلمين» بالنص فيها على أنه حين بدأ يخاطب العرب بتنظيراته الإسلامية المكتوبة باللغة العربية، كان يجهل اسم حسن البنا! وبما أنه كان يجهل اسمه، فمن باب أولى أنه يجهل اسم دعوته، دعوة «الإخوان المسلمين».
ولأنه يعلم أن التصريح بخبر كهذا، سيكون نازلة على «الإخوان المسلمين» تفصم عرى صبرهم، وتعجز قوتهم عن احتماله، تلطف كثيراً في صياغته، وأرفقه بتعليل هو أن كتب «الإخوان المسلمين» ورسائلهم، لم تكن تصل إليهم في الهند.
وهذا التعليل - وإن كان ثقيلاً على «الإخوان المسلمين» - تعليل مقنع وصحيح.
إننا نعرف من خلال بعض الأعمال المومأ إليها، ومن خلال كتابه الذي خصصه لسيرته الذاتية، ويعرف «الإخوان المسلمون» الذين التقوه أول مرة في زيارته الأولى لمصر في الأيام الأخيرة من أول شهر في عام 1951، «وكان بينهم يوسف القرضاوي حين كان طالباً في كلية أصول الدين في جامع الأزهر»، ويعرف قبلهم أدباء ومثقفي الحجاز الذين التقوه في زيارته الثانية للحجاز في الأشهر الأخيرة من عام 1950، قبل أن يسافر إلى مصر، أنه يعرف أسماء أدباء مصر ومثقفيها المعروفين، وأنه قد قرأ مقالاتهم وبعض كتبهم، وتأثر واسترفد من أساليبهم اللغوية والبيانية والبلاغية، وأنه قد قرأ مقالات العراقيين والسوريين واللبنانيين والفلسطينيين الذين يكتبون في مجلتي «الرسالة» و«الثقافة» المصريتين. وإن كان - لغلو ديني فيه - ينفر من توجهاتهم الفكرية واتجاهاتهم الأدبية والفنية، ويكن لها العداء الفكري الضيق الغليظ.
ولا شك أن «الإخوان المسلمين» حين التقوا الندوي أول مرة - إن كان صرح لهم شفاهة بأنه لم يكن يعرف اسم حسن البنا، وسيساعد على بوح كهذا، براءة اللقاء الأول وعفويته - تجرعوا هذا الخبر المر بألم ووجع. وراحوا يسألون - بحزن وأسى -: كيف عرف أسماء أولئك وعرف كتاباتهم ولم يعرف اسم حسن البنا واسم دعوته؟!
سيسألون هذا السؤال الاستنكاري، لأن إمامهم ومرشدهم في نظرهم يبز شيوخ الأدب والثقافة في مصر الذين عاصرهم، بل هو أكثر من ذلك، إنه عندهم قريع دهره، وفريد زمانه.
ولا شك أن الذين منهم قد قرأوا سيرة الندوي المفصلة زادهم إيلاماً وإيجاعاً وزاد حزنهم حزناً وآساهم أسى، التصريح بذلك الخبر كتابة.
القرضاوي استغل أن الرجل متوفى، واستغل أن الخبر ورد في سطر واحد في كتاب من ثلاثة أجزاء، واستغل أن الإسلاميين - فيما يتصل بالإنباء والإخبار - لا يسألون كتابهم فيما يكتبون ويروون، واستغل أن نخبهم من الكتاب والمثقفين يتواطأون على تأريخ ملفق ومزور، فساق ذلك الادعاء المتهاوي والمتهافت آمناً مطمئناً. وللحديث بقية.