ليونيد بيرشيدسكي
TT

الدول المناوئة للدولار لا تزال بعيدة عن الانتصار في المعركة

إن المستوى الهزيل الذي بلغته الليرة التركية (تراجعت بواقع 38 في المائة أمام الدولار الأميركي العام الحالي حتى الآن) والروبل الروسي (تراجع بواقع 14 في المائة) لهو دليل دامغ على ما يمكن أن تحدثه عقوبات أميركية بسيطة، أو حتى التلويح بفرض عقوبات غليظة في اقتصاد دولة ما. لكن هل تذهب الولايات المتحدة أبعد من ذلك في تعزيز تفوقها الاقتصادي؟ أو هل ينتهي الاستخدام القاسي لعقوباتها بأن تتراجع هيمنة الدولار العالمية؟
إن أصغيت إلى الأصوات العالية القادمة من أنقرة وموسكو ستجد أن هذا ما يحدث بالضبط. ففي هذا السياق، قال الرئيس رجب طيب إردوغان رداً على مضاعفة الإدارة الأميركية لتعريفة واردات الحديد والألمنيوم التركي بالإضافة إلى العقوبات الفردية المفروضة على عدد من المسؤولين الأتراك: «إننا نستعد للتجارة بعملتنا المحلية مع الدول ذات الحجم التجاري الضخم معنا مثل الصين وروسيا وإيران وأوكرانيا».
إن روسيا تواجه عقوبات متزايدة بسبب عدد من النشاطات المعادية للولايات المتحدة، وقد يتضمن ذلك حظراً على شراء الديون الروسية الجديدة، وعقوبات تهدف إلى التأثير على قدرة البنوك الحكومية الروسية على التعامل بالدولار الأميركي.
وخلال زيارته إلى أنقرة الأسبوع الماضي، زعم وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، بأنه على ثقة من أن إساءة استخدام الدور الذي يلعبه الدولار الأميركي بوصفه عملة العالم الاحتياطية سوف يضعف من ذلك الدور. أضاف: «لكي نكون في الجانب الآمن، ستتوقف المزيد من الدول تدريجياً، حتى الدول غير المتضررة من العقوبات، عن تداول الدولار الأميركي، وستتجه إلى الاعتماد على شركاء يمكن الاعتماد عليهم يستطيعون الاتفاق معهم على استخدام عملتهم».
وفي المقابل، قال أنطون سيلينوف، وزير المالية الروسي والنائب الأول لرئيس الوزراء والمسؤول الاقتصادي الأبرز، إنه لا يستطيع استبعاد قيام روسيا بالاعتماد على عملتها المحلية في تعاملاتها التجارية في الموارد الطبيعية. واستطرد سيلينوف في مقابلة تلفزيونية: «لقد بات واضحاً أن الدولار الأميركي الذي كان يعتبر العملة العالمية الأولى، بات أداة خطرة على الاستقرار».
تعتبر إيران ثالث دولة تسعى إلى تجنب الدولار في تجارتها الخارجية. في الحقيقة، نظراً إلى قسوة العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب مجدداً، ليس أمام إيران خيار آخر.
إن التعامل بعدد من العملات الوطنية بين الدول لم يعد مشكلة في ظل تطور التكنولوجيا. فقد جادل البروفسور بيري إتشنغرين بجامعة كاليفورنيا بأن سهولة التنقل بين العملات عبر الإنترنت قد أضعف من هيمنة الدولار الأميركي. والمشكلة هنا تكمن في أن بعض العملات قد تتأرجح، مثلما حدث للروبل الروسي، والأكثر وضوحاً الليرة التركية العام الحالي. فعنصر الاستقرار يمثل أحد المميزات التي يقدمها الدولار للمصدرين والمستوردين على حد سواء. واحتمالية أن تساعد الشركات إردوغان وسيلينوف في الاعتراف بالتهديد القائم ليست كبيرة.
كذلك، طبقاً لمنظمة التجارة العالمية، فإن روسيا وتركيا وإيران، رغم حجمها الكبير، لا تمثل مجتمعة سوى 4 في المائة من حجم التجارة العالمي في البضائع (باستثناء التجارية بين دول الاتحاد الأوروبي)، و3 في المائة في حجم تجارة الخدمات.
فكل من روسيا وتركيا قد قلصتا بدرجة كبيرة حجم الديون الأميركية في الشهور الماضية، لكن ذلك لا يمثل سوى لدغة بعوضة بالنسبة للولايات المتحدة، نظراً لحجمهم الذي يتضاءل أمام دول مثل الصين واليابان والبرازيل.
يعني ذلك أنهم في حاجة إلى شريك قوي لمنحهم قوة سوقية ذات ثقل تعوضهم عن عملة الدولار التي باتوا ناقمين عليها. لا يمثل الاتحاد الأوروبي هذه القوة، حيث لا تستطيع روسيا ولا تركيا الاعتماد عليه بقدر ما كانوا يعتمدون على الولايات المتحدة رغم قربهم التجاري وعلاقاتهم السياسية مع دول الاتحاد الأوروبي.
إن تغيير التعاملات التجارية من الدولار إلى اليورو من شأنه أن يخلق اعتماداً جديداً على دول أوروبا الديمقراطية، بكل ما فيها من مبادئ غير ملائمة، وقد تضيف خطراً جديداً، فالأزمة الاقتصادية لمنطقة اليورو لم تمحَ من الذاكرة ولم تحل الأزمة بعد.
ولأن الصين والدول الثلاث الأخرى المغردة خارج السرب تسعى إلى التخلص مما تعتبره التفوق غير العادل للدولار، فإن التباهي بحالة عملة «الرنمينبي» العالمية سيكون خياراً أكثر واقعية من الاعتماد على العملات المحلية تجارياً، ولذلك ستكون الصين بمثابة الحائط المائل وستحتاج إلى مساعدة كبيرة. وعلى الرغم من رفع قيمة عملة «رنمينبي» من الصفر عام 2010 إلى 25 في المائة عام 2015 وجعلها ثاني أكثر العملات شيوعاً في العالم في التعاملات المالية (متقدمة على اليورو)، فإن الصين تواجه معركة صعود التل للفوز بحصة عالمية لعملتها.
إن الصين في حاجة إلى الحصول على مزايا كبيرة أمام الدولار في الصادرات العالمية، لكي تجعل من عملة «رنمينبي» منافساً حقيقياً أمام الدولار.
في الوقت الحالي، بإمكان إدارة ترمب التصرف وهي بمنأى من العقاب، وتفرض العقوبات يميناً ويساراً. وحتى الصين بقدرتها الكبيرة لن تكون وحدها كافية لتشكيل قوة مناوئة للدولار، في المكان الذي تريده من العالم، ولا حتى في المكان الذي لا تملك فيه الولايات المتحدة القدرة على فرض عقوبات اقتصادية.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»