يظل الحديث عن السياسة الخارجية للقوى الإقليمية مطلوبا، بل يبدو أكثر إلحاحا في ظل ديناميكية الأحداث التي تمر بها المنطقة هذه الأيام، الأمر الذي يستوجب إعادة قراءة كيفية تعاطي السياسة الخارجية السعودية مع تطورات الأوضاع الإقليمية، دون إغفال إسقاطات دور القوى الدولية على الشؤون الإقليمية.
من الواضح أن النجاح الأكبر للسياسة الخارجية السعودية بعد الثورات العربية يتمثل في دعم مسار التصحيح السياسي في مصر، بابتعادها عن حكم الإخوان الذي تزامن مع تزايد ملحوظ في النبرة السياسية للقوى الإخوانية في العالم العربي، في الوقت الذي أوشكت السعودية خلال فترة حكم الرئيس محمد مرسي على أن تخسر مصر كحليف استراتيجي عادة ما شكل مع السعودية إحدى ركائز الاستقرار الإقليمي بمفهومه القائم على الحفاظ على الوضع الإقليمي الراهن وتطويره بدلا من تغييره. بل إن حكومة مرسي بدأت آنذاك خطوات ملموسة في سبيل تعزيز علاقاتها مع تركيا وإيران مما كان يعني عمليا تراجع المحور التقليدي السعودي المصري مقابل محور كان في طور التبلور قاسمه المشترك الإسلام السياسي، قافزا على التفاصيل المملة للتقسيمات المذهبية والطائفية، التي يكون توظيفها وفقا لرغبة صناع القرار وبما يخدم مصالحهم وسياساتهم النخبوية. كما يمكن الإشارة هنا إلى نجاح الدور السعودي والخليجي في قضيتين مهمتين بالنسبة للأمن الوطني السعودي: اليمن والبحرين، مهما بدا الوضع السياسي في اليمن هشا، في وقت لا تزال فيه البحرين تحاول السير على طريق الوفاق الوطني.
أما الصعوبة الأبرز التي واجهت السياسة الخارجية السعودية فتكمن في مسألتين لا يمكن الفصل بينهما: استمرار الأزمة السورية دون حل، وعدم تراجع، إن لم يكن تزايد، النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. لماذا وكيف حصل ذلك؟ بداية يجب الإشارة إلى أن السعودية وبعض الدول العربية، وغير العربية، راهنت على إمكانية سرعة إيجاد حل للأزمة السورية، لكن الأزمة السورية دخلت في منعرجات واحتمالات متعددة، ولعل أهم الأسباب هنا تكمن في مدى الدعم الذي يتحصل عليه النظام السوري من روسيا وإيران وحزب الله، في ذات الوقت كان الرهان على دعم الغرب لقوى المعارضة السورية سياسيا وعسكريا في غير محله. وقد تبدو الصورة أكثر قتامة بالنسبة لمستقبل سوريا، التي لا يستبعد أن تكون نسخة مكررة من عراق ما بعد صدام حسين، حيث الحضور الإيراني الطاغي على الساحة السياسية العراقية.
أما فيما يتعلق بتزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، فيرجع في المقام الأول إلى كون إيران تعتبر العالم العربي نطاقا استراتيجيا مهما لأمنها القومي، وورقة مساومة في علاقاتها مع القوى الدولية، يضاف إلى ذلك رغبة إيران الدائمة في تعزيز نفوذها الإقليمي ولعب دور أكبر في شؤون المنطقة بحكم موقعها الجغرافي وثقلها الديموغرافي ومكانتها التاريخية وتنامي قوتها العسكرية. لكن لعل من أهم أسباب تزايد نفوذ إيران في المنطقة العربية، يكمن في اعتمادها على مواردها الذاتية من ناحية، وتوظيف التغير الواضح في ميزان القوى الدولي لصالحها، خاصة فيما يتعلق بعلاقاتها المتنامية مع روسيا والصين. بالمقابل نجد أن غالبية الدول العربية تعتمد بشكل أكبر على تحالفاتها الدولية في حساباتها السياسية الإقليمية، ومهما يكن ذلك الأمر مقبولا ومألوفا في السياسة الدولية إلا أنه محفوف بالمخاطر، حالما تتغير أولويات القوى الكبرى، وهو ما حصل بالفعل بالنسبة للموقف الأميركي من قضايا المنطقة مؤخرا، باستثناء العلاقة الأميركية مع إسرائيل.
واضح في هذا السياق أن إيران استفادت من نفوذها في المنطقة العربية كورقة ضغط تستخدمها للمساومة في علاقاتها مع المجتمع الدولي، لا سيما مع الولايات المتحدة، حول بعض الملفات العالقة، وفي مقدمتها الملف النووي والترتيبات السياسية الإقليمية، بما في ذلك نجاحها، هي وحليفها السوري، في توظيف الحرب على الإرهاب والتطرف لصالحهما. ومن غير المستبعد أن ما نشهده من تطورات سياسية وأمنية في بعض البلدان العربية هو نتيجة حتمية للتفاهمات القائمة بين واشنطن وطهران، خاصة أن طهران دائما ما حاولت ربط أي تفاهمات دولية حول ملفها النووي بقضايا المنطقة الأخرى.
قابل ذلك تفاجُؤ سعودي بتقلبات السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط خلال فترة رئاسة أوباما، عطفا على ما حققه التحالف السعودي الأميركي من نجاحات في معالجة أزمات إقليمية ودولية كثيرة عبر العقود الماضية. بل استمرت واشنطن في نهجها المتردد والذي بموجبه لاحظنا انحسارا واضحا في التأثير الأميركي على القضايا الإقليمية، الأمر الذي ساهم في تعقيد هذه القضايا وفي مقدمتها الأزمة السورية.
نخلص من ذلك إلى القول بأن تعدد الملفات الإقليمية وتشابكها، وتقلبات المواقف الدولية حيالها، ساهما في التأثير على نتائج الحراك السياسي الإقليمي خلال السنوات القليلة الماضية. وهذا يجعل إقامة تحالفات إقليمية للتعاطي بفعالية مع القضايا والأزمات الإقليمية أكثر إلحاحا بالنسبة للسعودية، تماما كما هو حاصل في محاولة صوغ محور سعودي - مصري - إماراتي، يكون هدفه إيجاد تناغم بين هذه الدول في كيفية إيجاد حلول لبعض القضايا الإقليمية القائمة، مهما كانت ظروف وأولويات كل طرف من أطراف التحالف. وحتى نبدو أكثر واقعية، فإن السياسة كما نعرف هي فن الممكن وليس المستحيل، بالتالي يبدو أن ما تم تحقيقه هو ما أمكن تحقيقه في ظل العوامل والمعطيات التي تحدثنا عنها سالفا. وهذا مع ضرورة إعادة قراءة كيفية التعامل مع أحداث المنطقة للاستفادة والبناء على ما تحقق من نجاحات.
*كاتب سعودي
TT
السعودية والأزمات الإقليمية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة