محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

كاميكاز العسل

مُفزع منظر الدبور الياباني الذي يبلغ طول جسمه خمسة سنتيمترات، ويفوق باع جناحيه الغشائيين المُدخَّنين عشرة سنتيمترات، فيبدو في طيرانه وكأنه عصفور من نارٍ غبراء، لهذا سمَّاه اليابانيون «أوسو زومو باتشي»، وتعني «عصفور النحل العملاق»، إذ يبدو نوعاً خارقاً من النحل بحجم العصافير، وهو أبعد ما يكون عن رقة العصافير وعن عطاء النحل.
دبور برأس أصفر ضخم وعينين مركبتين كبيرتين تعلوهما ثلاث عيون صغيرة، فكأنها منظومة استكشاف ورصد متكاملة لآلية قتل حيَّة، بفكين كُلابيين مُسننين، لا يكتفيان بمجرد القبض على الفرائس لالتهامها، بل لتمزيقها بطريقة وحشية وبشعة، أكثر ما تكون مروِّعة في خلايا نحل العسل الأوروبي الذي استقدمه اليابانيون لأنه يفوق النحل الياباني في إنتاجه من العسل والشمع، فوجد فيه هذا الدبور ضالته السهلة؛ فالدبور المنفرد يستطيع أن يفتك بأربعين نحلة منه في دقيقة، وفي هجمة جماعية من ثلاثين دبوراً يكون الحصاد ثلاثين ألف نحلة قتيلة في ثلاث ساعات، وليته يكون مجرد قتل، بل مجزرة تترك الخلية المغدورة مفروشة بأطراف وبطون ورؤوس النحل المقطوعة دون الصدور التي تحملها الدبابير المهاجمة إلى أعشاشها لتنتزع منها العضلات التي تمثل أفضل ما تستطعمه وتطعم منه صغارها. لكن هذا لا يحدث من الدبابير اليابانية مع النحل الياباني!
يتبع نحل العسل الياباني عدة تكتيكات في مواجهاته الدائمة مع هذه الدبابير نمطية العدوان. وأول هذه التكتيكات ترتبط بالوجود الدائم لدبور استكشاف يحوم لتحديد مكان خلية نحل في الجوار، فيحط عليها ويُفرِز فيرومونات تلتصق بها وترشد إليها دبابير عائلته لإنجاز المجزرة والطيران بغنيمة الصدور، لهذا ما إن تكتشف نحلة دبوراً هائماً يقترب حتى تستدعي بقية النحل لإحداث ضجيج، كقرع الطبول بأجنحتها، وكلما اقترب الجاسوس تعالى القرع حتى يصل إلى دوي يصيب الدخيل بالهلع فيهرب!
أما إذا تحمَّل المتسلل قرع طبول أجنحة النحل المحتشد عند مدخل الخلية، ودفعه غروره إلى عدم التراجع، فإن النحل يُبدي التراجع أمامه، ويتوارى داخل الخلية، مع ترك نحلة واحدة فدائية تستدرج المتغطرس، يتبعها متشهياً افتراسها، وسواء استطاع أن يقبض عليها بفكيه القاتلين، أو استطاعت أن تفلت منه، فإنها وقبل أن يطلق فيروموناته المستدعية لفيالق أهله الجزارين، تطلق هي نفيراً فيرومونياً لاستدعاء خمسمائة من أخواتها!
تُشكِّل النحلات الخمسمائة بأجسادها المتلاحمة كرة تحبس العدو في قلبها، ومُحاطاً بحِمل حراري من أجساد مئات النحلات المحيطة به يبدأ الدبور استسلامه، لكن النحلات المحتشدة لا تأمن شره، فتنطلق معاً في الاهتزاز بتسارعٍ أقصى لتوليد حرارة إضافية عن طريق المجهود العضلي الذي تبذله، وبدوران كرة النحل المتذبذبة كما طاحونة فيزيائية حول جسم الدبور الحبيس، تتجه الحرارة الإضافية إلى المركز لتلفحه، ولتأكيد فعل الحرارة يدفع الحشد في كرة النحل بثاني أكسيد الكربون إلى المركز، فتبلغ حرارته 47 درجة مئوية لا يحتملها جسد الدبور الذي كان عملاقاً، ويموت متقلصاً متيبساً دون أن يتمكن من إطلاق أية فيرومونات لاستدعاء ذويه.
ويبقى أن النحل المعروف بحساسيته لارتفاع الحرارة، الذي يحافظ على العيش داخل خلايا لا تزيد درجة حرارتها على 33 درجة مئوية، يصل إليها في برد الشتاء بالتجمع معاً ليتدفأ بعضه ببعض، ويمنع ارتفاعها في الصيف بتقمُّص عاملاته دور مراوح حية لا تتوقف عن التهوية بأجنحتها لتبريد الخلية حتى إن بعضها يموت من فرط الإجهاد! هذا النحل نفسه، الذي يتآزر لإقامة فرن روستو بيوفيزيائي عجيب يشوي فيه الدبور الجاسوس، يدفع ثمن النجاة من المجزرة عدد من النحلات لم تحتمل لفح حرارة إجهاض الهجوم التي تفانت في إلهابها حتى الموت، وكأنها «كاميكاز»، وتعني في اليابانية «عاصفة النار»، أو الرياح المقدسة التي تقف في صف اليابانيين. وقد استُخدِمت صفةً للطيارين اليابانيين الانتحاريين في الحرب العالمية الثانية!
ألا يوحي هذا بأن كل بيئة تصنع رموزها؟