د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

إيطاليا لم تفق بعد من هزيمتها في ليبيا

لا تزال العقلية الفاشستية مسيطرة على بعض السياسيين الإيطاليين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بليبيا التي أذاقتهم الهزائم المتلاحقة في معارك ضارية منها: معركة كويفية وجليانة في بنغازي والقرضابية وبومليانة والمرقب ووادي دينار في المنطقة الغربية، ومعركة زاوية عرقوب في الجبل الأخضر والمرج والمفصل في طبرق وسوكنة في الجنوب وغيرها، إبان الغزو الإيطالي في القرن الماضي؛ إذ لم يستطيعوا التوغل داخل الأراضي الليبية، فقد كان المجاهدون لهم بالمرصاد، رغم الفارق الهائل في العدد والعتاد. لذا فقد ركزوا حرب الإبادة في المدن الساحلية تخويفاً للمجاهدين الذين لم تثنهم الفظاعات والممارسات الإجرامية ضد أهالي ليبيا، من خلال الزج بالسكان المحليين في معتقلات جماعية خلف الأسلاك الشائكة ليموت أكثر من نصف السكان من العطش والجوع والمرض، وهي الفظاعات التي ذكر بعضها في كتاب «برقة اليوم» الدكتور «توديسكي»، الذي كان في عام 1931 مدير الخدمات الصحية في الجيش الإيطالي: «اضطر الليبيون للعيش في الخيام، و55 في المائة من الليبيين ماتوا في هذه المعسكرات»... وهي الفظاعات التي ارتكبها المستدمر الإيطالي قبل وبعد الحقبة الفاشستية الإيطالية، فإيطاليا غزت ليبيا عام 1911 أي قبل العهد الفاشي بسنوات كثيرة، وبالتالي المطمع والحلم الإيطالي في ليبيا بوصفها شاطئاً رابعاً كان يراود الفاشستي وغير الفاشستي؛ وإن كانت درجة المجاهرة به تختلف بينهما.
ولعل تصريحات السفير الإيطالي جوزيبي بيروني الأخيرة المستفزة بشأن الانتخابات، لا تخرج عن دائرة الحلم في ليبيا «الشاطئ الرابع لإيطاليا (La Quarta Sponda)» وهو اسم أطلقه الزعيم الإيطالي الفاشستي بينيتو موسوليني على ليبيا. ولم يستطع تحقيقه جراء البسالة النادرة والمقاومة التي أبداها الليبيون، ومات جدنا عمر المختار واقفاً، لمنع حدوث هذا، بنما مات زعيمهم الفاشستي موسولني مشنوقاً ومعلقاً من رجله بصحبة شريكته في وسط روما.
ما أدلى به السفر الإيطالي حول الانتخابات الليبية والقول: «لا لإجراء الانتخابات» عد انتهاكاً فاضحاً وتدخلاً صفيقاً وسافراً في الشؤون الداخلية الليبية.
واستنكرت وأدانت وزارة الخارجية بالحكومة الليبية المؤقتة التدخلَ السافر وغير المسؤول من سفير إيطاليا لدى ليبيا جوزيبي بيروني في الشؤون الليبية، وقالت إن «مسألة تنظيم الانتخابات وتحديد مواعيدها شأن داخلي لا يحق لأي جهة خارجية التدخل فيها، وليبيا دولة مستقلة ذات سيادة وعضو في منظمة الأمم المتحدة، وليست بلداً تحت الوصاية، ولن نقبل؛ سواء من إيطاليا أو من غيرها، التدخل في شؤونها الداخلية. وتصرفات السفير الإيطالي وما يقوم به من تحركات تنم عن العقلية الاستعمارية التي ولّت ولن تعود».
تصريحات السفير الإيطالي لا يمكن قراءتها خارج التعبير عن عقلية مافوية تستمد نزعتها الشعبوية من العقلية الفاشستية، التي لا تزال تؤمن بأن ليبيا هي الشاطئ الرابع. وما حالة الغضب والاستنكار والاحتجاجات في ليبيا والتي تطالب بطرد السفير الإيطالي ورفض تدخلاته، إلا دليل على الرفض الشعبي والرسمي، ولكن السفير بيروني كرر الاستفزاز والتطاول والسخرية بالقول إن «عدد المحتجين لا يتجاوز العشرين أو الثلاثين شخصاً».
وكرر بيروني موقف إيطاليا المعارض لإجراء الانتخابات الليبية، وتجاهل السفير الإيطالي موجة الاستنكار الواسعة بين البرلمانيين الليبيين والأوساط السياسية والاجتماعية بالبلاد، حيث قال عضو مجلس النواب سعيد امغيب: «حديث السفير الإيطالي دليل على طمع الحكومة الإيطالية من خلال سفيرها في السيطرة على ليبيا، والتحكم في مقدرات شعبها الأبيّ الذي لم يركن للظلم يوماً ولن يركع».
تصريحات السفير الإيطالي لا يمكن قراءتها بعيداً عن المطامع الإيطالية وحالة الارتباك التي يشهدها المشهد الإيطالي، بعد صعود اليمين الشعبوي إلى السلطة في روما، خصوصاً بعد أن كشفت صحيفة «الأعمال الإيطالية - أفاري إيطاليا» أن «شرطة الأموال» الإيطالية صادرت أكثر من مليوني يورو من شخص يدير ممتلكات للمعتصم القذافي، الذي قتل مع والده في سرت في حرب فبراير (شباط) 2011؛ الأمر الذي يعد سرقة لأموال ليبية يجب أن تعود للدولة الليبية كغيرها من الأموال المنهوبة.
التصريحات المستفزة لسفير إيطاليا لدى ليبيا ما كان لها أن تحدث لولا حالة التطاول على السيادة الليبية، التي فتح بابها بعض من الذين يحنون إلى عودة المستعمر، بعد كان أجدادهم خدماً وجواسيس له، بينما غالبية الشعب الذين كان أجدادهم يقارعون المستعمر الإيطالي حتى ماتوا وقوفاً؛ وعلى رأسهم شيخ الشهداء عمر المختار، لن يسمحوا للمستعمر بالعودة ولو كان محاطاً برهط من محبيه من أحفاد خدم المستعمر.