د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

قراءة شريرة في المكوّن الليبي

القراءة القاصرة والعوراء والمشحونة بالمغالطات حتى الثمالة للكاتب الأميركي جاستين ريموندو عن «الأمة الليبية»، تنم عن جهل أعمى، ومحاولة شريرة وبائسة لزرع الفتنة، إذ قال إن «الفكرة القائلة بوجود أمة تدعى ليبيا هي المشكلة المركزية بفهمنا لما يحدث في ذلك البلد المزيف، أي الخلل في توقعاتنا لما يجب أو سيحدث. البلد المعروف اليوم باسم ليبيا لم يكن موجوداً إلا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان نتاجاً لزواج طلقات نارية من الأقاليم الثلاثة: طرابلس في الغرب، برقة في الشرق، وفزان في الجنوب». لا يمكن فهم ما قاله جاستين ريموندو إلا على أنه جهل بآليات الدول وطرق تشكلها وتكونها.
ويعتبر ما ذهب إليه تزييفاً للحقيقة وعجزاً عن استيعاب المشهد بمختلف تقلباته، بل إنها نظرة ضيقة لم يستقرأ فيها العامل الديموغرافي كيف كان وكيف أصبح، وهل فعلاً حدث اندماج ولو كان على حالات مصاهرة وتنقل بين الأقاليم، الأمر الذي حدث طوال السنوات الماضية حتى أصبح التشابك المجتمعي نسيج حرير تبعثر فوق شجرة السدر صعب خلاصه منها.
ثم إن رمي الكلام على عواهنه من دون تمحيص ومعرفة، يؤدي إلى الحماقة الكاملة، فهذا الكاتب يهرف بما لا يعرف، فهو لا يعلم أن العرب يشكلون 96% من سكان المنطقة التي يتحدث عنها، فهل هذا لا يكفي لتشكيل دولة متناغمة أكثر استقراراً من دولته متعددة الأعراق؟
وبالإضافة إلى ذلك، هناك مدن ليبية قفزت على المفهوم القبلي، كمكون أوحد ومنها طرابلس وبنغازي ودرنة، حيث تنوعت فيها الفسيفساء الليبية، الأمر الذي عجز جاستين ريموندو على قراءته، بل إنه تجاهل كيفية تشكل الدول، فسويسرا الحديثة مثلاً تكونت من زواج قسري بين أقاليم مختلفة ولغات وشعوب مختلفة، ومع هذا لم يمنعها هذا من أن تكون دولة واحدة. وهو لا يعلم أيضاً أن ليبيا لم تحدث فيها حرب أهلية بالمفهوم المجتمعي، أي بين القبائل والمدن، بل كانت الحرب فيها بين آيديولوجيات وافدة ومهاجرة تتنوع فيها الولاء بين قاعدة الظواهري و«داعش» البغدادي وإخوان البنا وقطب، حيث اتخذت من فراغ السلطة وانهيار الدولة سبيلاً للتطاحن بينها، وإن كانت جرّت بين أنيابها بعض الشباب الليبي، ولكنها بقيت ضمن مظلة صراع الآيديولوجيات، الأمر الذي لم يستوعبه المستر ريموندو، واختزل الأمر في الأمة الليبية، بينما تجاهل جذور الصراع الحقيقية بل قفز على ما كتبه أدريان بيلت في كتاب «الاستقلال الليبي والأمم المتحدة»، حيث شرح حالة الإنهاء المُخَطَط للاستعمار (Adrian Pelt Libyan Independence، A Case of Planned Decolonization).
فقد روى بيلت الذي كان المفوض السامي في ليبيا، كيفية إدارة الصراع في هذا البلد، وكيف تخلصت ليبيا من الاستعمار، وكان حريصاً على الالتقاء مع الشخصيات السياسية والاجتماعية المؤثرة والقبائل، وحرص على اختيار ممثلي الأقاليم بشكل شفاف، لضمان نجاح مهمته، ولهذا كانت هزيمة مشروع بيفن - سفورزا لتقسيم ليبيا في الأربعينات، والذي تم فيه الاتفاق على أن تحصل ليبيا على استقلالها بعد عشر سنوات، على أن توضع أقاليم ليبيا الثلاثة خلال هذه الفترة تحت وصاية دولية، وقدم المشروع للأمم المتحدة للتصويت عليه أمام الجمعية العامة في 17 مايو (أيار) 1949، ولتمريره كان يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين، ونجح الوفد الليبي في كسب تأييد إميل سان لو ممثل دولة هايتي لدى الأمم المتحدة، وكان صوته هو المرجح الذي أدى إلى سقوط المشروع، وتم ميلاد ليبيا، بإرادة ليبية من دون زواج قسري كما توهم جاستين ريموندو.
وإن كانت ليبيا اليوم تشهد تداعيات السجال القائم حول مسودة الدستور المخيبة للآمال، فهذا نتيجة صراع وافد إلى ليبيا وليس نابعاً منها، حتى تسبب في حالة من العجز في التوافق على دستور بسبب ما تحمله مسودة الدستور المقترح من المواد والبنود المفخخة، والتي كتبت بحبر إخواني وتكرس للنظام المركزي، وكتبت بلغة قابلة للتأويل بأكثر من وجه ومعنى، في مخالفة صريحة لما تعارفت عليه طرق كتابة الدساتير، كما أن المسودة تجاهلت الهوية العربية للدولة الليبية وقفزت عليها، في دليل واضح على الحبر الإخواني الذي لم يجف بعد من مسودة الدستور، والذي يريد أن يحول ليبيا إلى قاعدة لدولة الخلافة المزعومة، وينهي الدولة ككيان قائم، وهذا ما أغضب الشارع الليبي وأغضب بعض المتظاهرين أمام قاعة البرلمان، فمسودة الدستور التي كرست لنظام المغالبة السياسية كانت مخيبة للآمال، في إحياء تاريخ ليبيا من جديد.