علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

لماذا «رِدَّة ولا أبا بكر لها» وليس «قضية ولا أبا حسن لها»؟

لِأدع أبو الحسن الندوي يحدثنا عن قصة كتيبه «رِدَّة ولا أبا بكر لها» وعن سعة انتشاره وعظم تأثيره في الإسلاميين قاطبة، سنّة وشيعة.
يقول في الجزء الأول من سيرته الذاتية: «في مسيرة الحياة»:
«سافر صديقنا الأستاذ سعيد رمضان، الذي كان يصدر مجلة (المسلمون) بدمشق عام 58 – 1959، إلى ألمانيا للحصول على شهادة الدكتوراه، فطلب مني أن أكتب افتتاحيات المجلة أثناء غيبته، فكتبت الافتتاحيات لعدة شهور، وكانت أول افتتاحية منها بعنوان (رِدَّة جديدة) نبَّهتُ فيها إلى رِدَّة جديدة تكتسح العالم الإسلامي اليوم، وهي رِدَّة جاءت مع زحف أوروبا السياسي والحضاري على الشرق الإسلامي، وأنها أعظم رِدَّة حدثت في التاريخ الإسلامي من عهد النبوة إلى عصرنا هذا، إنها ديانة اللادينية (اللادينية يُقصد بها العلمانية، استناداً إلى ما تعنيه اللائكية باللغة الفرنسية. وهذا الاختيار لا يخلو من غرض) والإلحاد... وقد نُشر هذا المقال في حلقتين بعنوان (رِدَّة جديدة) و(دعوة جديدة) في مجلة (المسلمون). وهو الذي صدر فيما بعد في رسالة مستقلة بعنوان (رِدَّة ولا أبا بكر لها). صدرت في أوقات مختلفة، ومن مؤسسات عديدة في أعداد كبيرة، ووزعت في مِنى وعرفات. ولعل أي مقال أو رسالة للمؤلف لم يصدر في هذا العدد وأثّر هذا التأثير، كما صدرت هذه الرسالة وتركت تأثيرها الكبير».
ويهمِّش لعنوان الكتيب في المتن، فيذكر هذه الحكاية في الهامش التي يعتبرها حكاية طريفة:
«كنت بمكة 1964، وكانت تُعقد جلسات الرابطة (يقصد رابطة العالم الإسلامي)، وكنا جالسين في مركز الرابطة، إذ دخل علينا عالم شيعي، فقام سماحة المفتي السيد أمين الحسيني، الذي أقام أياماً في إيران، واستقبله وبدأ يعرّفه بنا واحداً واحداً؛ هذا هو الأستاذ المودودي، وهذا فلان، وهذا فلان، فلما جاءت نوبتي قال: هذا الشيخ أبو الحسن الندوي. وقد كان هذا الزائر آية الله روح الله الخميني، فلما سمع باسمي قال: نعم قرأت رسالتك (رِدَّة ولا أبا بكر لها) وقد كان الأَوْلى أن تُسمّى (رِدَّة ولا أبا حسن لها)، فقلت: لا يا فضيلة الشيخ، العرب يقولون (قضية ولا أبا حسن لها) فسكت».
لدافع نجهله غطّى أبو الحسن الندوي على السبب الحقيقي لترك سعيد رمضان - أحد قيادات الإخوان المسلمين الكبيرة وصهر حسن البنا - سوريا وهجرته إلى ألمانيا. فهو قد ترك سوريا وترك المجلة التي يملكها ويرأس تحريرها وسافر إلى ألمانيا، لا ليحصل على شهادة الدكتوراه، وإنما لسبب آخر.
هذا السبب هو أنه مع إعلان الوحدة بين مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة في فبراير (شباط) عام 1958، كان لا بد له أن يفرّ من سوريا، لأنه مطلوب من السلطات المصرية. وكان قد سبق للحكومة المصرية أن طلبت من الحكومة السورية تسليمه لها أو إخراجه من سوريا بسبب قيادته مظاهرات تندد بجمال عبد الناصر والحكومة المصرية بعد صدور أحكام قضائية من محكمة الشعب في شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 1954، تقضي بإعدام سبعة من الإخوان المسلمين، وبالأشغال الشاقة المؤبدة لستة منهم، وبالسجن لمدد متفاوتة لأعداد كبيرة منهم بتهمة الاشتراك في محاولة اغتيال جمال عبد الناصر والتخطيط للانقلاب على الحكومة المصرية. لكن الحكومة السورية رفضت تسليمه ورفضت إخراجه من سوريا واعتبرته لاجئاً سياسياً لديها عليها حمايته. وقبل محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، أو ما تسمى حادثة المنشية بشهر، كانت الحكومة المصرية جرّدته هو ومجموعة من الإخوان المسلمين ومعهم الصحافي الوفدي أحمد أبو الفتح من الجنسية المصرية، لاتهامهم بالخيانة العظمى لبلادهم. وقد صدر بحقهم هذا الحكم لأنهم كانوا منهمكين في نشاط سياسي معادٍ للحكومة المصرية خارج مصر. ولحرمانه من جنسيته المصرية منحته الحكومة الأردنية جواز سفر. وسبب ذلك أن حكومة عبد الناصر كانت معادية بعنف للنظام الملكي في الأردن.
هذا هو السبب الحقيقي لترك سعيد رمضان سوريا وترك مجلته التي نقلها بعد ذلك إلى مقره في جنيف. وهو أنه كان خائفاً على نفسه. وذِكْر سبب كهذا ليس فيه ما يشينه أو يسيء إليه.
بعد إزجاء هذه الملحوظة، لنناقش عنوان الكتيب ونناقش حكاية صاحبه مع الخميني حول عنوانه.
«قضية ولا أبا حسن لها» قول منسوب إلى عمر بن الخطاب، و«أبو حسن» هو علي بن أبي طالب. وعمر قال هذا القول حين استشكل على بعض الصحابة البتّ في إصدار حكم فقهي في قضية تحتاج إلى الوصول إلى حل نهائي فيها. ثم صار قول عمر هذا مثلاً. وهذا القول هو قول مشهور في كتب النحو، لأنه يتضمن شاهداً نحوياً.
الندوي حين طبع مقاله ذا الحلقتين المنشور في مجلة «المسلمون» في رسالة مستقلة حوّر ذلك القول وسكّ قولاً تكفيرياً متطرفاً وخطراً جديداً، وهو: «رِدَّة ولا أبا بكر لها» وجعله عنواناً بديلاً لعنوانَي ذلك المقال المنشور في تلك المجلة في حلقتين.
عنوان الحلقة الثانية من المقال «رِدَّة جديدة» يتطابق مع فكرة المقال ومع مضمونه ويعبر عنهما على نحو دقيق وتام. أما عنوان الحلقة الثانية منه «دعوة جديدة» - مع أن الحلقة هي تتمّة لما قاله في الحلقة الأولى فكرةً ومضموناً - فهو لا يتطابق مع فكرة المقال ولا مع مضمونه. ذلك لأن لفظ ومصطلح الدعوة بمعناه الديني الإسلامي الخاص، وبمعناها العام، يختلف كلياً عن لفظ ومصطلح الرِّدَّة بمعناه الديني الإسلامي الخاص.
هذا أولاً.
وثانياً، أن لفظ دعوة، وجملة دعوة جديدة، لفظ وجملة محايدان، لكونهما لا ينطويان على رأي أو حكم سواء أكان هذا الرأي أو الحكم سلبياً أم إيجابياً.
وجملة دعوة جديدة، قد توحي للقارئ بأن الكاتب سيعرّف بدعوة جديدة ما، ويقدم عرضاً لها، أو أنه بعد التعريف بها وعرضه لها سيبدي قدر اتفاقه أو اختلافه معها أو أنه سيحبذها جملةً وتفصيلاً ويدعو إلى الأخذ بها. وقد توحي الجملة بأنه سيدعو الناس أو فئة منهم إلى دعوة جديدة، يرى أنها محقة وصائبة أو فيها خير ونفع إما من الناحية العملية وإما من الناحية النظرية. لكن بعد قراءة المقال سيكتشف القارئ أن عنوان الحلقة الثانية من المقال غير مطابق لفكرته ولمضمونه، فضلاً عن أنه مضلل.
وثالثاً، إن فكرة المقال ومضمونه، يتحدثان عن تأثير الحضارة والثقافة الغربية في الشرق الإسلامي في ميادين ومجالات شاسعة وعريضة. وهذه الميادين والمجالات لا تجملها جملة دعوة جديدة. ففي هذا الشأن نحن أمام دعوات كانت جديدة على العالم الإسلامي، متعددة ومتباينة ومختلفة ومتعارضة ومتناقضة لكن يمكن إجمالها أو استيعابها بجملته الأولى التكفيرية المتطرفة: رِدَّة جديدة.
إذا ما نظرنا إلى تحويره القول الأصل من زاوية الفكر الإسلامي الأصولي المحدث، فسيكون من الناحية الفنية ومن الناحية المضمونية، تحويراً مفهوماً ومبرَّراً، لأنه يريد به مماثلة دينية وتاريخية لاعتناق الطبقة المثقفة في العالم الإسلامي الأفكار الغربية، إنْ جزئياً وإن كلّياً، لكنه تجاهل أنه في متن الرسالة قال - وهذا ما يعلمه الخميني لكنه سكت: «لقد قالوا قديماً: قضية ولا أبا حسن لها. وأقول: قضية ولا أبا بكر لها». وتحويره هذا للقول الأصل كان غير مفهوم وغير مبرَّر.
قال الندوي مباشرةً بعد هذا القول السالف: «إنها قضية لا تطلب حرباً ولا تطلب تهييج الرأي العام، ولا تطلب ثورة، ولا تطلب عنفاً، بل إن العنف يضرها ويهيجها. والإسلام لا يعرف محاكم التفتيش ولا يعرف الاضطهاد، إنها تطلب عزماً وتطلب حكمة، وتطلب صبراً واحتمالاً وتطلب دراسة».
دعوته السلمية هذه تتضارب مع عنوان الرسالة أو الكتيب «رِدَّة ولا أبا بكر لها». تتضارب مع ما يقوله ومع ما يدعو العنوان إليه.
هذا العنوان يقول: إنه حصلت رِدَّة جديدة عن الإسلام عند المسلمين. ومتن المقال أو الرسالة أو الكتيب يحدد هذه الرِّدَّة في طائفة منهم، هي طائفة المثقفين. وهذه الرِّدَّة الجديدة التي حصلت لم ينتبه إليها إلا قلائل، والذين ينقطعون لمحاربتها ويجنّدون لها قواهم ومواهبهم أقل. والقلائل والأقل يعني بهم الإسلاميين وليس رجال الدين. لأن رجال الدين - مع تحفظه على هذا المصطلح تحت دعوى أن «ليس في الإسلام الكهنوت والطبقة الدينية الممتازة» لكنه استعمله - يراهم فريقين، وكان تقييمه لموقفهما من التنبّه ومواجهة الرِّدَّة الجديدة تقييماً غير سارّ حتى من الناحية الأخلاقية.
وقد تحدث عن فريق ثالث من رجال الدين. ومن وصْفه لهذا الفريق ولحاله ولموقفه، وصفاً كله ثناء، نستدلّ على أن هذا الفريق هم صحبه الإسلاميون.
لكن العجب أنه قال عن هذا الفريق: إنه يكاد يكون مفقوداً!
ولقد قال عن الإسلاميين هذا القول ليتسق وتعميمه الجارف بأن الرِّدَّة «اكتسحت العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وغزت الأسر والبيوتات والجامعات والكليات والثانويات والمؤسسات». وانسياقاً وراء هذا التعميم الجارف يقدم الإسلاميين، بوصفهم الأقلية الناجية من ذلك الاكتساح ومن ذلك الغزو.
وللحديث بقية.