أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

العراق والمصير المرتقب

أبعدت إسرائيل الميليشيات الإيرانية و«حزب الله» اللبناني عن الحدود الشمالية الأردنية في درعا، وأفشلت مساعيها بتهديد الأمن القومي الأردني، بعد اشتراطها على نظام الأسد إبعادهم عن المحافظة لتسمح بعودة النظام للسيطرة على الجولان. اتفاق إسرائيلي مع نظام الأسد برعاية روسية صب في مصلحة الأردن. وحالما انتهت أزمة الأردن وعاد النازحون السوريون إلى منازلهم في درعا، اشتعلت مظاهرات جنوب العراق التي تطالب بتوفير الخدمات الأساسية كماء الشرب والكهرباء، في ظل قطع إيران للكهرباء وخفض حصة الجنوب من الطاقة.
من حيث المبدأ، توسعت مطالبات المتظاهرين في محافظات جنوب العراق على أساس مشروع، فالناس نصبت خيامها في أجواء حارة قاربت فيها درجة الحرارة الخمسين درجة مئوية لأنها وصلت إلى آخر حاجز الصبر بعد إهمال البعض في الحكومة المركزية للمنطقة التي تدر معظم عوائد العراق. ما تشتكي منه محافظات الجنوب والوسط كالبصرة والمثنى والنجف وكربلاء تشتكي منه كل المحافظات العراقية؛ من تفشٍ للفساد في معظم المؤسسات الحكومية وجل الطبقة السياسية، الأمر الذي انعكس بدوره على المستوى المعيشي للمواطن العراقي الذي يعاني من البطالة وسوء الخدمات، كما تفشت الجرائم المالية كالرشى والابتزاز. الاحتجاجات الجارية للأسبوع الثاني على التوالي يمكن للحكومة العراقية السيطرة عليها بحلول سريعة كما فعل رئيس الحكومة حيدر العبادي بتخصيص 3 مليارات دولار للمشاريع التنموية في البصرة، واستثمار النظام العشائري في المحافظات الجنوبية بإرسال فريق حكومي للقاء وجهاء العشائر لكبح جماح الشباب الغاضب، وفتح تحقيق رسمي مع المسؤولين في الجهات الخدمية كالمياه والكهرباء. لكن حتى يطمئن الناس لتحقيق هذه المطالب من الضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة الائتلافية وبدء جلسات البرلمان، لأن هذا الفراغ أحد أهم الأسباب الممهدة للفوضى.
المتأمل في بلد كبير كالعراق الغني بموارده الطبيعية والبشرية يتعجب كيف أنه منذ عام 2003. بعد سقوط نظام صدام حسين، لم يستطع أن يقف على قدميه، بل وأصبح نموذجاً سلبياً للحوكمة. النموذج العراقي دلالة ظاهرة على رداءة حال الأرض التي تتعرض لتدخلات أجنبية انتهازية مع تواطؤ داخلي. ومع أن المنطقة العربية عانت بعد ثورات عام 2011 وما تلاها، اقتصاديا وسياسيا، لكن معظم الدول التي مر عليها الإعصار الشعبي تحاول منذ حينه أن تتعافى من آثاره، وهي تبذل في هذا الاتجاه جهوداً كبيرة حتى وإن شاب خطواتها تعثر أو تراجع. أما الدول التي تعاني من وباء التدخل الإيراني فهي كانت قبل الثورات وبعدها في حال يرثى لها؛ العراق، لبنان، سوريا، اليمن. كل دولة توغلت فيها إيران دب فيها الفساد الإداري والسياسي، وأحيل إلى حاضنة للإرهاب. ويظل العراق هو الدولة الأكثر سهولة للإيرانيين لافتعال الأزمات، مثلما فعلت في الموصل شمالاً قبل أربعة أعوام ومكّنت لتنظيم داعش احتلالها وإشغال الحكومة المركزية والدول الحليفة بالحرب على التنظيم منذ ذلك الوقت. وهي اليوم تثير العراقيل والمشكلات في الجنوب لتعميم الفوضى وإطالة أمد الأزمة وتهديد الدول المجاورة. إيران تنتظر أياما عصيبة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، التوقيت الذي حدده الرئيس الأميركي دونالد ترمب لضرب تجارة النفط الإيرانية، مع وجود بدائل للنفط الإيراني يضمن توفر إمدادات الطاقة، وهي قد دخلت دوامة المصاعب منذ إعلان الرئيس ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي، وتترقب أزمات اقتصادية ستنفخ في نيران الغضب الشعبي الذي لم تتوقف وتيرته منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي. إيران تحاول أن تستعرض مكاسبها وقوتها في المنطقة، تفرض نفسها كقوة إقليمية ليس من السهل محاصرتها في خانة العقوبات الأميركية عليها، تذكّر إدارة ترمب أن لها في العراق، التي يرى الكثيرون أن ما يحصل فيه هو نتيجة للغزو الأميركي، يدا عليا، ليس فقط في حضور الحرس الثوري بل الميليشيات العراقية المسلحة المحسوبة على إيران مثل «الحشد الشعبي» و«حزب الله العراق» و«عصائب أهل الحق» وغيرها من الجماعات، إضافة إلى الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإيرانية. تستطيع إيران رفع الورقة العراقية في وجه واشنطن وإشعال جنوب العراق بالاحتراب والفوضى، يمكنها دس من تريد بين المتظاهرين، وتهديد حقول ومصافي النفط والحدود مع جيران العراق، لكن تبقى المسؤولية الأخلاقية والوطنية على عاتق الحكومة الجديدة المنتظر تشكيلها، ومجلس النواب الذي اختاره الناس، في ترسية التنمية الشاملة في كافة المحافظات وكشف الفاسدين. لا يمكن التسليم بالتأثير الإيراني في العراق للتخفيف على الحكومة والبرلمان، فالعراق بلد كبير، والمنطقة التي تثور فيها الاحتجاجات اليوم معظم سكانها من العرب الشيعة المناهضين للوجود الإيراني في العراق، ولهم تأثير وصوت ومطالب. لم يكن من الضرورة أن تنتظر الحكومة خروج الناس في الشوارع في هذا الجو اللاهب حتى تقدم 3 مليارات دولار، حتى لا تكون سنة متبعة لباقي المحافظات. إذا أراد العراقيون اليوم إنعاش بلدهم بعد هذه العقود من الأزمات عليهم الوقوف ضد الممارسات الطائفية وفساد السياسيين والعمالة لإيران، لأنها هي من تعطل الكهرباء والماء والتوظيف وإصلاح الطرق.