سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«النيل الأحمر» : يروي ساعة العطش

كل شيء في النيل ميزة ليست في سواه. لا في الأمازون، ولا في المسيسيبي. إنه نهر الحضارات القديمة، ونهر مصر، ربما أول دولة في العالم. وفي القرن الرابع قبل الميلاد، أراد إسكندر الكبير أن يعرف مصدر هذا المد الماضي الهائل، الذي وحده يفيض في الصيف حتى تكون الأرض في حاجة إلى ريّ. فيروح النيل يفيض بلا حساب، والأرض تخصب بلا وعي، والطمي القادم من أعالي إثيوبيا. وذات زمان، فاض به الطمي، فحمله حتى شواطئ صور، وغيَّر جغرافيتها، من جزيرة تعصي على الفاتحين إلى مدينة بلا أسوار.
تغطّي النهر ألوان ومخلوقات. هناك التماسيح، وأفراس النهر، والغزلان، وطيور عنز الماء. ويطفو الخزامى عند منتصف التيار. نهرٌ «مقدّس»، قديمٌ وممزق كالأسطورة. يمتص النيل الأحمر كل الحياة والموت، ويكمل طريقه لاهياً.
كان القدامى بعيدين كل البعد عن الخيال. فنتعرف إليهم من خلال فنهم، المرسوم بشكل رائع على جدران الكهوف، ومن خلال أدواتهم: من فؤوس يدوية، ثقيلة وصدفيّة الشكل، ورؤوس سهام صوانية ممزقة من السيليكا، وهو زجاج طبيعي نادر يوجد فقط في الصحراء المصرية، ويُعتقد أنه يتكوّن من نيزك ذي حجم هائل تحطم في الرمال، وانصهر مع بحر الرمال العظيم، ضمن حوض أسماك أخضر. وبعد مرور آلاف السنين، نقلت قطعة كبيرة من هذا الزجاج على ظهر حمار حتى نهر النيل، ومن ثم، إلى الفرعون توت عنخ آمون، الذي طلب إلى عماله نحتها على شكل «جعران»، ورصّعها بالذهب حول عنقه.
كانت عائلات الصيادين تعيش طوال السنة في الماء. وفي حين استخدم الرجال قوارب ذات محرك خارجي، كان النساء والشباب مضطرين إلى التنقل في قواربهم باستخدام المجاذيف الكبيرة والطويلة غير المرغوب فيها. فكانوا يلقون الشباك ويضربون المياه من أجل رفع السمك إلى الشباك، وهناك إفريز يعود إلى ثلاثة آلاف سنة في مقبرة بني حسّان، يصوّر الصيادين يضربون مجاذيفهم في المياه، كما هي الحال اليوم.
ولن يسمح لك النيل الأحمر بالابتعاد عن التاريخ. إنه المصدر والمركز في أكثر من ناحية. ما إن يقع نظر الناس على النيل، حتى يشعروا برغبة غريبة في السفر إليه واكتشاف أسراره وامتلاكه والتحكم في سخائه. ومعظم الروايات ترتبط بمحاولات ناجحة. وعلى مدى آلاف السنين، تمّت السيطرة على فيضان النيل، من خلال بناء ضفاف مرتفعة، أو حواجز على طول النهر. وفي ناحياتٍ أخرى، وَجّهَت السدود الفيضان يميناً ويساراً نحو أحواض مربعة كبيرة، وهي عبارة عن مزيج من البحيرات الصغيرة التي يبحر فوقها الناس على طوافات البردي، أو القوارب الخشبية، حتى الجذوع العائمة. وحين تجفّ الأحواض، تُزرع بالحبوب التي تنمو بكثافة على تربة غنية بالطمي ومروية جيداً.