تيريزا رافيل
TT

تيريزا ماي... معركة من أجل البقاء

للمرة الثانية خلال الفترة القصيرة التي تولت خلالها رئاسة الوزراء، تواجه تيريزا ماي معركة من أجل البقاء. وإذا انتصرت، ستصبح زعيمة هيكل سياسي جديد في بريطانيا: حكومة ائتلافية مكونة من حزب واحد.
منذ انتخابات 2017 الكارثية، التي خسر خلالها حزب المحافظين أغلبيته البرلمانية، وواجهت رئيسة الوزراء دعوات للاستقالة، تحولت الحكومة إلى ما يشبه حالة اشتباك عملاقة. وأصبحت هناك شخصيات نافذة على جانبي الجدال ـ أولئك الراغبين في انفصال حاد ونظيف عن أوروبا، وآخرين يرغبون في الإبقاء على أوثق علاقات ممكنة بعد الانفصال ـ ودخل الفريقان في تنافس محموم على السلطة.
الملاحظ أن الانقسامات المتعلقة بأوروبا عميقة، وتعود إلى حقبة مارغريت ثاتشر على الأقل، لكن الانشقاق المعلن اكتسب طابعاً مؤسسياً في يناير (كانون الثاني) 2016 عندما أعفى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون حكومته من المبدأ الحاكم الخاص بالمسؤولية الجماعية عن قضية بريكست. وأصبح بمقدور الوزراء شن حملات والتصويت بحرية تبعاً لما تمليه عليهم ضمائرهم. وقد مارس الكثيرون منهم، بما في ذلك بوريس جونسون، هذه الحرية على نحو ترتبت عليه نتائج مدمرة.
اليوم، عاد جونسون إلى القضية ذاتها من جديد، وذلك من خلال خروجه المسرحي من الحكومة للحفاظ على مكانته باعتباره أبرز مؤيدي فكرة أن المملكة المتحدة أفضل حالاً ببقائها بعيداً عن أوروبا. وتثير استقالته، وكذلك استقالة وزير شؤون «بريكست» ديفيد ديفيز، مخاطرة أن تواجه ماي الآن تحدياً لزعامتها.
منذ 72 ساعة ماضية، بدا أن ماي استعادت السيطرة. وقد جمعت مجلس وزرائها، الجمعة، داخل مقر إقامتها الريفية وجردتهم من هواتفهم، وقطعت أي اتصالات بالصحافيين الذين كانوا ينتظرون بالخارج. وأخبرت ماي الوزراء بأن أمامهم إما الوقوف خلف مقترحاتها أو الذهاب إلى المنزل. وبعد 12 ساعة، خرج الوزراء متحدين، على ما يبدو، خلف خطة لبريكست أطلقت عليها الحكومة أنها تشكل «تطوراً مهماً» في مقترحاتها بخصوص علاقة المملكة المتحدة مستقبلاً مع الاتحاد الأوروبي. وبعد 48 ساعة، بدأت تتحول ملامح هذا التطور لتصبح أشبه بثورة.
في الواقع، بمقدور ماي العيش دون بوريس جونسون، خصوصاً أن مكانته تراجعت كثيراً بسبب هفواته المتكررة كوزير خارجية. ويمكنها أيضاً العيش دون ديفيز الذي قضى أربع ساعات فقط خلال هذا العام في اجتماعات مع نظيره على مستوى الاتحاد الأوروبي ميشيل بارنيير. الملاحظ أن ما تخسره ماي من أسماء بارزة تعوضه في صورة مكاسب في الصورة العامة لقيادتها باعتبارها تتميز بالتناغم والاتساق.
أما داخل حزب المحافظين، يبقى من غير المحتمل أن تؤدي هذه الأزمة إلى عقد انتخابات. وتبعاً للقانون الحالي، فإن أول انتخابات قادمة لن تكون قبل 2022، وبينما نجحت ماي العام الماضي في ضمان أصوات الثلثين الضرورية داخل البرلمان لمساندة دعوتها لعقد انتخابات قبل موعدها المقرر بثلاث سنوات، فإن الحكومة الحالية ـ بغض النظر عمن يقودها ـ من غير المحتمل أن تخاطر بفقدان مزيد من المقاعد.
أما إذا تعرضت ماي لهجمات الآن، فهي هجمات لا تحمل خطراً حقيقياً، خصوصاً أن أنصار «بريكست» الذين قد يرغبون في الإطاحة بها الآن بحاجة إلى أرقام كبيرة للفوز في تصويت بالثقة في مواجهتها، وقائد يلتفون حوله وخطة من أجل «بريكست» بمقدورها اجتياز التفحص البرلماني أو قادرة على الصمود في إطار المفاوضات مع بروكسل. حتى هذه اللحظة، لم يحقق هذا المعسكر أياً من هذه العناصر.
وتدور حجة أنصار «بريكست» حول أن التكاليف الاقتصادية المرتبطة بالرحيل تمثل ثمناً جديراً بأن تتكبده البلاد مقابل استعادة سيادتها، وسيجري تعويضه من خلال الفوائد المستقبلية المترتبة على اتفاقات تجارية جديدة. إلا أن هذه الحجة لن تلقى قبولاً في أوساط الكثير من المحافظين، ناهيك عن جمهور الناخبين الأوسع. في الواقع فكرة أن بريطانيا بمقدورها الرحيل عن الاتحاد الأوروبي الآن دونما اتفاق تبدو سخيفة.
اليوم، يجري حكم بريطانيا من جانب حكومة ائتلافية. وتبدو مسألة انتماء طرفي جدال «بريكست» إلى حزب المحافظين دون أدنى أهمية حقيقية. وتمثل الهدف الأساسي من وراء المراهنة التي خاضتها ماي، الجمعة، في ضمان أن اليد العليا من نصيب المعسكر الخاص بها. في الوقت ذاته، تحرك المعسكر الراغب في انتقال حاد عن الاتحاد الأوروبي نحو الجانب الأضعف، وأصبح لزاماً عليهم إذا رغبوا في الاستمرار في الحكومة أن يدعموا موقف الأغلبية، ويسمحوا بمضي المفاوضات مع بروكسل.
من المعروف بوجه عام أن الحكومات الائتلافية هشة بطبيعتها، وسوف تظل الحكومة التي تتزعمها ماي على هذه الحال. كما أن الرأي العام عادة ما يبدو متشككاً إزاء هذه النوعية من الحكومات. ومع هذا، فإنها قد تحمل مميزات، فهي تعتمد على قاعدة تمثيلية أوسع مع ميل الشركاء لتقديم تنازلات من أجل تمرير القوانين المطلوبة. كما أنه بمقدور مثل هذه الحكومات تحسين مستوى المشاركة الديمقراطية والمساءلة، مع عمل كل شريك كعنصر كابح لميول الآخر المتطرفة. وربما يشجع وجود شريك متشدد إزاء الاتحاد الأوروبي داخل حكومة المملكة المتحدة، بروكسل، على العمل بخطى أكبر نحو إبرام اتفاق، ذلك أنه ليس من مصلحة الاتحاد الأوروبي هو الآخر خروج بريطانيا دونما اتفاق.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»