إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

أهلاً بكم في «دويلات الطوائف» اللبنانية!

لننسَ، ولو لبرهة، التباهي الغريب بالقوة والاعتزاز المبالغ فيه بالوطنية، ولننظر إلى الأمور كما هي على الأرض.
قلة من المتابعين تصدّق أن الوضع في لبنان سليم. وأقل من هؤلاء يرون أن البلد يظل، إلى حد ما، يتمتع بحصانة داخلية تقيه مخاطر الوضع الإقليمي غير المشجع. وأقل من الفريقين أولئك الذين يرون أن الوضع الإقليمي المشار إليه سيضمن استقراراً طويل المدى، مع أن الانطباع العام هو عن وجود «غالب ومغلوب» على المدى القصير – على الأقل – برعاية أو مباركة دولية.
الحقيقة التي لا يودّ بعض اللبنانيين الاعتراف بها أن البلد في أزمة عميقة، ما عادت تستطيع تغييبها مناورات السياسيين أو اللقاءات الصحافية الرئاسية. وما حدث خلال الأيام القليلة الماضية على الساحة المسيحية (بالذات المارونية)، بما فيه الكشف عن مضمون «تفاهم معراب» بين «التيار الوطني الحر» (التيار العوني) وحزب «القوات اللبنانية»، يؤكد انعدام الثقة ووصول الصفقات الاستنسابية المؤقتة إلى نهاية الطريق.
أما على الساحة السنّية، فجاء كشف النقاب عن عُمق الأزمة المالية التي تعصف بجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية العريقة (أسست عام 1878) والتي تهدّدها بالإفلاس، ليكمل صورة القلق من تزايد التشرذم السنّي واستخفاف البعض بموقع «الرئاسة الثالثة» المحجوزة دستورياً للسنّة... وهو ما أدى إلى تداعي 3 رؤساء حكومات سابقين للاجتماع برئيس الحكومة سعد الحريري تأكيداً على وحدة الصف.
أزمتا المسيحيين الموارنة والسنة، الذين يشكلون مع الشيعة الكتل الطائفية الأكبر عدداً في لبنان، والذين يتقاسمون مع الشيعة الرئاسات الثلاث (الجمهورية والبرلمان والحكومة)، يقابلهما تكتل شيعي يبدو - حتى الآن - متماسكاً بعدما خدمته كثيراً ممارساته الداخلية، ودعمه أكثر المشروع الإيراني التوسّعي الإقليمي. وهذا ما هو جلي اليوم، بعد اقتراب محنة سوريا من النهاية التي عمل من أجلها كل الذين وقفوا ضد انتفاضة شعبها ووحدتها الوطنية.
التزام الرئيس الأميركي باراك أوباما، قلباً وقالباً، بالتحالف مع إيران ضد حلفاء واشنطن التقليديين كان خياراً مهماً جداً على الصعيد الاستراتيجي، لا سيما أن أوباما حكم لفترتين رئاسيتين بنى خلالهما قناعاته على أسس آيديولوجية قاطعة. ومن ثم، فإن 8 سنوات من الدعم الأميركي المُستتر لنظام طهران، والتغاضي المتعمّد عن تجاوزاته وأطماعه، ومشاريعه التي أخذ ينفذها بالأسلحة التقليدية قبل أن يكمل ترساناته النووية... ليست بالمسألة البسيطة.
من ناحية أخرى، لا يصح الاستهانة مطلقاً بطموح روسيا تحت قيادة تتذكّر الإرث السوفياتي وتعتزّ بقدراته العسكرية والأمنية، وتحنّ لسطوته قبل نهاية «الحرب الباردة» على نصف الكرة الأرضية. وبما يخصّ الشرق الأوسط، تعاملت «موسكو - فلاديمير بوتين» مع إيران أيضاً كجسر يعيدها إلى المنطقة، وحليف تكتيكي تمارس عبره ابتزاز واشنطن وإنهاكها ما أمكنها ذلك. ومن هذا المنطلق، لعبت موسكو دوراً نشطاً في المساعدة في بناء القدرات النووية الإيرانية، وغضت النظر عن توسّع نفوذ الملالي في العراق وسوريا ولبنان، بل اعتبرت هذا التوسع رافداً لخطة ابتزاز واشنطن كي تقبل عودتها شريكاً في الشرق الأوسط، كما كان عليه الوضع أيام الاتحاد السوفياتي.
وهكذا، بمزيج من الاقتناع «الأوبامي» الاعتذاري بضرورة تطبيع العلاقات مع طهران، والطموح «البوتيني» العنيد للعودة إلى الشرق الأوسط شريكاً كاملاً فيها للأميركيين... ارتسمت ملامح ما رأيناه ونراه منذ 2011.
كان طبيعياً أن يؤتي هذا الضغط «من فوق» ثماره داخل كيانات المنطقة، وتحديداً دول «الهلال الخصيب» (العراق وسوريا ولبنان وفلسطين)، مع استقواء طهران به، واندفاعها أكثر فأكثر في مشروعها المتمدد إلى الخليج واليمن أيضاً. وفي نهاية المطاف، ما كان ينقص التفجير الكامل سوى «صاعق التفجير» الذي سرعان ما أمّنته «داعش» والقوى التي دعمتها ورعتها وتواطأت معها.
صارت فظائع «داعش» هي «بيت القصيد»، وغدا القضاء عليها الذريعة الجاهزة ليس فقط للسكوت على مشروع طهران، ولا التطبيع مع طهران نووية فحسب، بل القبول أيضاً بـ«شرعية» ميليشيات طائفية تلغي سيادة دول أعضاء في الأمم المتحدة. واليوم، بينما تدافع عدة حكومات غربية علناً عن اتفاق نووي أطلق يد طهران في الشرق الأوسط، فإن الكثير من القوى الغربية تتعامل فعلياً مع ميليشياتها في العراق ولبنان واليمن وتتفاوض معها على أساس أنها جزء من السلطة الشرعية.
في لبنان، أضحى حزب الله، الذي هو القوة الوحيدة على الساحة اللبنانية التي تحتفظ بسلاحها خارج سلطة الدولة، العمود الفقري للدولة. ذلك أنه، بفضل حصرية سلاحه المسكوت عنه دولياً، استطاع فرض مرشحه لرئاسة الجمهورية، وفرَض قانون الانتخاب الذي يريده لإجراء الانتخابات البرلمانية على أساسه. وهو اليوم الجهة الممسكة بملف النزوح السوري بعدما كان الجهة المتسببة به نتيجة تدخله العسكري لقمع الانتفاضة السورية.
أكثر من هذا، ثمة مراقبون سياسيون في لبنان يتهمون الحزب بقيادة حملة ممنهجة لإضعاف موقف رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وما يمثله في الشارع السنّي، والتصعيد الذي يقوده وزير الخارجية جبران باسيل ضد حزب القوات اللبنانية – وما يمثله في الشارع المسيحي – والحزب التقدمي الاشتراكي – وما يمثله في الشارع الدرزي.
واللافت، أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي وعد لدى التوافق على انتخابه بأن يكون «أب الجميع» لا يبدو قادراً على إيجاد مسافة بين موقع الرئاسة ومواقف «التيار» الذي أسند رئاسته لصهره وزير الخارجية باسيل. وكانت آخر النكسات فشل كل مساعي التفاهم المسيحي – المسيحي، واضطرار القوات اللبنانية لكشف تفاصيل «تفاهم معراب» السرّية رداً لحملة أخرى من حملات باسيل الشرسة عليها.
كذلك، فإن هالة «الرئيس القوي» التي أصرّ تيار عون على ترويجها، ومن ثم اعتماد نعت «القوي» حتى في أسماء لوائحه الانتخابية البرلمانية، لم تظهر حتى الآن في فرض هيبة الدولة وسيادتها وتماسكها ووحدة قرارها، بقدر ما ظهرت على شكل «استقواء» على اللاجئين والنازحين ووكالات الأمم المتحدة.
ومن ثم، يصح القول، للأسف، ما عاد لبنان سوى «دويلات طوائف» غالبيتها ضعيفة مهزومة، و«القوية» الرابحة واحدة... إلى حين.