أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

سوريا بين التقسيم وتقاسم النفوذ

لا يمكن تفسير الترتيبات التي تجري في مدينة منبج السورية بين واشنطن وأنقرة وتقضي بانسحاب القوات الكردية وتشارك الطرفين في حفظ الأمن، أو فهم ما يثار عن ضوء أخضر أميركي، ورضا إسرائيلي وأردني، يسمح لقوات النظام وحليفته روسيا بخرق الهدنة في الجنوب السوري وتجديد الحرب تمهيداً لإنجاز تسوية شبيهة بما حصل في الغوطة الشرقية، على أن تتضمن إخراج الميليشيا الإيرانية من مدينتي درعا والقنيطرة، أو تفسير انكشاف التنافس بين موسكو وطهران على المنافع ومنافذ السيطرة الاستراتيجية في سوريا، أو فهم تواتر الخروقات التي تتعرض لها خطوط خفض التصعيد في مدينة إدلب وأرياف حلب وحماة واللاذقية... لا يمكن تفسير ذلك وفهمه إلا على أنه شكل من أشكال الصراع على النفوذ بين مختلف الأطراف المنخرطة في الصراع السوري والمحكومة بمصالح متضاربة وبسعي كل طرف للاستئثار بحصة وازنة من المستقبل السوري، يحدوه عجز مزمن للمجتمع الدولي عن وقف العنف وتمرير حل سياسي يلبي مطالب الناس ويحفظ وحدة الوطن والدولة.
والحال أن التدخل العسكري الروسي، ومن قبله الإيراني، ومن ثم الأميركي والتركي، وحيازة كل منهم مناطق يسيطر عليها وأهدافاً سياسية متباينة، جعل سوريا أرضاً مستباحة وعرضة لتقاسم النفوذ وتالياً للتقسيم. لنقف أمام مشهد يضم 4 كيانات؛ أولها ما سمي «سوريا المفيدة»، ويضم إلى جانب العاصمة دمشق، المنطقتين الوسطى والساحلية، وتسيطر عليه قوات النظام وحلفاؤها الروس والإيرانيون، ويمتد الثاني من شرق نهر الفرات حتى القامشلي محكوماً بـ«قوات سوريا الديمقراطية» وكتائب الحماية الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، بينما يخضع الثالث لإرادة تركيا بعد تواطؤ الجميع على تجميع مختلف جماعات المعارضة الإسلاموية المسلحة فيه، ويشمل محافظة إدلب وبعض أرياف حلب وحماة واللاذقية، في حين يضم الرابع أهم البلدات الحدودية لمحافظتي درعا والقنيطرة وتوجد فيه فصائل من الجيش الحر بالتنسيق مع أميركا والأردن، وتضاف إليها الجيوب والإمارات الصغيرة من بقايا «دولة داعش» المزعومة المتنقلة بين البادية وأقصى الشرق السوري، وأيضاً تلك المواقع التي وضعت إيران يدها عليها بحجة حماية المراقد الشيعية أو لضمان طريق برية آمنة بين العراق وسوريا ولبنان.
ومع حفظ المسافة والفوارق بين التقسيم وتقاسم النفوذ الحاصل، لجهة الاستقرار والثبات في الأول وحاجته للشرعية السياسية؛ بنيوياً وخارجياً، فإن مشهد تقاسم النفوذ ما كان ليكتمل لولا استنادات وامتدادات داخلية، تبدأ بنظام يزدري السياسة واستخدمت أركانه، دفاعاً عن مصالحها الأنانية، أشنع وسائل الفتك وأحط الاستفزازات الطائفية، واستجرت مختلف أشكال الدعم الخارجي من دون اعتبار لما يخلفه نهجها من ضحايا ودمار، ومن ارتهانات مذلة، ومن تشوهات وشروخ عميقة في المجتمع، مروراً بتبلور اندفاعات انفصالية ترتبط بأجندة خارجية، انتهاء بتقدم جماعات دينية عابرة للوطن خطفت ثورة السوريين وأنشأت دويلات وإمارات إسلاموية من دون اعتبار للتعدد والتنوع القائم تاريخياً.
وإذ نعترف بأن الدولة السورية لا تزال حديثة العهد، ولم ترسخ في المجتمع هوية قوية جامعة تستند إلى عقد ديمقراطي وتنتج وطناً مستقراً يؤمن الجميع به، ونعترف بأن السلطات الاستبدادية المتعاقبة ساهمت في تشويه اللحمة الوطنية والانتكاس بالمجتمع إلى هويات تفكيكية، متوسلة أساليب القمع والتمييز والروابط المتخلفة، المذهبية والعشائرية، فلا بد من أن نعترف في المقابل، بأن سوريا عريقة في حضارتها وتعايش مكوناتها، وأن هناك أسباباً بنيوية ترجح غلبة مسار الانصهار الوطني في مواجهة نوازع التفرقة والتمييز، منها التفاف الشعب السوري تاريخياً حول مهام عريضة، كقضية فلسطين والوحدة العربية، ومنها أن السوريين، من مختلف مكوناتهم القومية والدينية، لعبوا دوراً متكاملاً في بناء دولتهم وتاريخها الحديث، وغلب انتماؤهم إلى الأحزاب الوطنية على أي انتماء، كما أنهم في ريعانهم هم من أفشل مشروع الاستعمار الفرنسي بتقسيم بلادهم، وحافظوا عليها كياناً واحداً تحت الانتداب، وصولاً إلى الاستقلال، وهم الذين تمكنوا في محن سابقة من الحفاظ على تماسكهم، وسارعوا ما إن مرت السنوات العجاف إلى العض على الجراح وتجاوز ما حصل من عنف ودماء لتأكيد لحمتهم الوطنية، وهم أنفسهم الذين توحدهم اليوم النتائج المأساوية التي خلفها العنف المنفلت ومعاناة قهر مشتركة في أماكن النزوح وبلدان اللجوء، مثلما يوحدهم القلق والخوف من حاضر مؤلم وغامض ومن مستقبل مفتوح على الأسوأ.
يعزز ما سبق إدراك غالبية الأطراف الخارجية خطورة دفع تقاسم النفوذ فيما بينها إلى حدود تقسيم الوطن السوري، تحدوهم حقيقة أن التقسيم لن يفضي إلى التهدئة وإخماد الصراع؛ بل ستكون تكلفته باهظة جراء الأعباء الواجبة من كل طرف لحماية الكيان المرتبط به، والأهم لاستحالة تمرير مشروع للتقسيم على أسس طائفية وإثنية من دون أن ينعكس ويمتد إلى بلدان الجوار بفعل مكونات عرقية ودينية متداخلة، والقصد حصول الأسوأ وألا يفضي التقسيم للسلم والاستقرار، بل لتغذية العداوات الطائفية والإثنية والنزعات الانفصالية، فاتحاً الباب لإعادة رسم خرائط المنطقة وتعريض المصالح الإقليمية والعالمية لأضرار فادحة، ما يفسر رفض المجتمع الدولي محاولات تقسيم بلدان مشرقية بدت سهلة التفكيك في محطات مختلفة، مثل لبنان إبان الحرب الأهلية 1975 - 1990، ثم العراق بعد الحرب الأميركية 2003، فضلاً عن إعاقته المستمرة انفصال الأكراد سياسياً في شمال العراق، فكيف الحال إن ألحق التقسيم العتيد، ضرراً بأمن إسرائيل، وفرض إلى جوارها قطاعات جهادية متطرفة تنظر إلى القضية الفلسطينية من منظار ديني يتعاضد مع رؤية حركة حماس.
هو شرط لازم أن تلجم تراكمات بناء الهوية الوطنية السورية والحسابات الاستراتيجية الخارجية، تفكيك هذا البلد وتقسيمه بصورة نهائية، لكنه يبقى شرطاً غير كافٍ إن لم يقترن بتبلور قوى داخلية؛ سياسية ومدنية، تنتصر لوحدة وطنها وتتطلع لإعادة بنائه على أسس صحية، متوسلة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وطريق العدالة الانتقالية بوصفها طريقة مجربة، لتخفيف ما أحدثه العنف المنفلت من شروخ وتصدعات، عبر محاسبة المرتكبين وإنصاف الضحايا، ولعل أهم درس عمدته ثورة السوريين بالدماء، أن الوطن ليس انتماء واجتماعاً مذلين تكرسهما قوى القهر والاستبداد، بل هو وطن الحرية والكرامة.