العبارة الإيجابية الوحيدة التي قالها أخيرا الحاكم المدني الأميركي للعراق في فترة ما بعد سقوط النظام السابق بول بريمر، هي أن «فكرة تقسيم العراق غبية»، لأن العراق لا يمكن تقسيمه، إلا إذا مر بكوارث كبرى، ولا يمكن لأي شكل من التقسيم أن يجلب له الأمن لعقود طويلة. وهذه الحقيقة بدت تتضح لأصحاب الغرض السيئ وتعزز مشاعر وحدة العراقيين، وأدت إلى مراجعة السياسيين القدامى والجدد لمواقفهم، وأصبح شعار الوحدة أكثر تأثيرا من الشعارات الطائفية التي أخذت أضواؤها تخفت تدريجيا، ولعل المعاناة اليومية تركت آثارا إيجابية في التوجهات الجديدة نحو رفض محاولات تمزيق المجتمع.
الثورة المصرية الثانية أثرت كثيرا في الوضع العراقي وعلى الموقف العربي الممول والموجه والداعم لـ«القائمة العراقية»، احتجاجا على التدخل التركي في الشأن العربي لمصلحة حزبية. والحقيقة التي لا لبس فيها هي أن يبدو أنه تضارب المصالح الخليجية والتركية على الساحة المصرية وتونس والعراق، انسحب على العرب السنة في العراق، فمن تبنى الموقف التركي المؤيد لحكم الإخوان، خسر المساندة العربية، إلا من دولة واحدة، قد تكون معرضة لرد فعل مصري مماثل لما حدث للعلاقات الدبلوماسية التركية – المصرية، وهو ما وضع «القائمة العراقية» على خط انشطارات متعددة. وبما أنها لم توفق في تحقيق نسبة معقولة من أهدافها بعد فوزها الانتخابي الكبير السابق، فإن تشققها لا يعني ضررا للشريحة الأم، إن لم يكن يخدمها.
تيار ديني شبابي «سني» مندفع ومتعقل في الوقت نفسه، وذو خبرة سياسية تحتاج إلى مراجعة التجارب وموازنة الواقعية بالطموح بما يجنب التيار ردود الفعل الصعبة والتداخلات الخطرة، وسياسيون حائرون لا طاعة لهم، لكنهم امتلكوا مالا «حراما» كثيرا من أموال الشعب، وآخرون يحاولون الخروج من العباءة المناطقية والطائفية ويواجهون صعوبات نفسية ودعائية وعملية ومالية. من هؤلاء ستخوض الانتخابات المقبلة كتل منفردة، وقد لا يعودون إلى اتفاق بينهم، وأسهمت إفرازات التدخل التركي في المتغيرات الحاصلة سلبا على الأرض، طمعا في ثروة العراق.
وعلى الطرف الكردي تغيرت المعادلات في غياب الرئيس طالباني، وتعززت قدرة «حركة التغيير» بقيادة نوشيروان مصطفى، أحد أبرز الشخصيات الكردية على مدى العقود الأربعة الأخيرة. وبدأ الحديث يصل إلى المحظور عن وحدة إقليم كردستان، وظهرت عبارات الخطوط الحمراء عنها، التي فات معظم سياسيي عرب العراق استخدامها، إلى أن أدركوا تخطي حالة الوعي الشعبي لأفكارهم. لذلك، حدثت خلافات كردية جدية حول انتخابات مجالس المحافظات، والرغبة في التوجه إلى الانتخابات البرلمانية العراقية بقوائم منفصلة عدا كركوك، وهو توجه تفرضه المعطيات على الأرض، إلا أن ما يمكن توقعه لم يصل وصفه إلى مستوى الاختراق «حاليا».
أما الكتلة الأكبر فهي «التحالف الوطني» الشيعي. ففي أهوار الجنوب ولد الحزب الشيوعي إلى أن أصبح أحد أكبر تيارين في مرحلة الخمسينات والستينات. ومن محافظة الناصرية على حافات الأهوار توسعت قيادات حزب البعث. وفي انقلاب البعث على حكم عبد الكريم قاسم «ثورة 14 رمضان 1963» كان ثلثا قيادة البعث من الشيعة. وفي الجنوب نشأت الأحزاب والكتل الدينية القوية المؤتلفة ضمن «التحالف الوطني». ومنها نشهد حراكا واسعا تفوق أهميته حراك شمال بغداد وغربها، لما يمكن أن يؤدي من نتائج يصعب تخطيها.
التوافق الشيعي - الشيعي أصبح أكثر تعقيدا، ولا يلبي التطلعات الإيرانية للمرحلة المقبلة، فالتدفق النفطي العراقي خلال مرحلة العقوبات التي فرضت على إيران مثلا، أضر بالسياسة الإيرانية ولم ينل رضاها. والتكتل السني أثرت عليه المعطيات الإقليمية والمحلية ونتجت عنه مواقف مختلفة، والكرد في حراك مستمر رغم أن بغداد تنأى بنفسها عن التدخل فيه في المرحلة الحالية. والأتراك فشلوا، والإيرانيون يتصرفون بدهاء تجاه السياسيين من سنة عرب العراق، والأميركيون ضعف دورهم، والخليجيون وحلفاؤهم من العرب الآخرين عدا سياسة قطر فيما يبدو، لا يريدون رؤية واجهة عراقية سنية بهوية «إخوانية».
هذا هو الواقع العراقي، يستحق فيه التأييد من يعمل على منع التشرذم ويسعى إلى تعزيز وحدة العراق، و«يخفف» من الاحتقان الطائفي، ويضرب الفساد بقوة. وتبدو ملامح صورة قيادة العراق للمرحلة المقبلة واضحة، لكن علينا أن ننتظر لنسمع منهم أكثر عن برامجهم، ولنتلمس خطواتهم العملية، فكل واحد منهم ليس إلا جزءا لا يتجزأ عن العراق.
TT
يا لها من فكرة ساذجة!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة