حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

هجرة مال وعقل!

الهجرة العربية لها حقب ودورات ومواسم عبر التاريخ والأزمان، فهناك حقبة تفتت الخلافة العثمانية والقلق الكبير الذي تلاها، نتاج التقسيم العرقي والديني والجغرافي للكثير من المناطق والدول، فخاف الكثيرون من الناس وآثروا الهجرة إلى أوروبا وإلى أميركا الشمالية واللاتينية، وكان في الأغلب من يهاجر من بلاد الشام بشكل رئيس.
ومع قيام دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية قامت موجة ثانية من الهجرة المهمة جدا معظمها فلسطينيون، ثم كانت فترة التأمينات الحمقاء التي قادها عربيا جمال عبد الناصر، وكان لها أثر شديد الأذى والتدمير على الاقتصادات العربية، فأدت إلى موجة جديدة من التهجير، ولكنها كانت محدودة في طبقة الرأسماليين والمقتدرين بشكل أساسي، هاجروا بأفكارهم وأموالهم وأحلامهم، ثم كانت الكارثة والطامة الكبرى الأخرى التي تمثلت في انتكاسة ونكبة وهزيمة 1967، والتي تسبب فيها جمال عبد الناصر أيضا، وكانت هناك «هجرة» عظيمة أخرى إلى أرجاء العالم، ثم كانت الهجرات المصغرة المتلاحقة نتاج الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت أكثر من اثنتين وعشرين سنة بشكل هستيري، ثم كان أيضا الغزو العراقي للكويت الذي تلا الحرب بين العراق وإيران، وأفرز كل هذا العبث والحماقات المزيد من الهجرات.
واليوم ها هي ظاهرة الربيع العربي في الدول التي حدثت فيها مباشرة أو في الدول التي تخشى حدوثها، فيها مشاهد الهجرات الجماعية وبأعداد مهولة ومن كل الأعمار والخلفيات والأعراق والأديان والأوضاع المادية، هناك هجرة وهناك هجرة استباقية، أرتال من البشر والأموال تنتقل من العالم العربي إلى ضفاف العالم في كل المصارف والمراكز المالية ابتغاء الإقامة والسكن والأمان والاحتراس من القلق والمخاوف.
هذا هو الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الجديد الذي لا يظهر أبدا حين إحصاء تكاليف الربيع العربي حتى الآن، إلا أن الهجرة العربية التي أصبحت بالملايين ورحل معها المال والفكر والأمل، ستترك فراغا يستشعر به الكل لأجيال قادمة، إنها التكلفة الأصعب والأمر.
مهاجرو الصين والهند هاجروا وعادوا، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، ولكن الأثر كان ملموسا، وكانوا مصدر ثروة وثقة ودعم لا يمكن الاستهانة به، وذات الشيء من الممكن أن يقال بالنسبة إلى الأرمن واليهود أيضا، كانوا عناصر دعم غير عادي لبلادهم، العرب يهاجرون بسبب دول فشلت في منحهم الإحساس بالأمان والحرية والكرامة بمنتهى البساطة، شعوب تجرؤ على الإقدام على مغامرة مجهولة النتائج وغير مضمونة أبدا، وتغامر حتى في بعض الأحيان بحياتها، لا بد أنها وصلت إلى مرحلة من اليأس والقنوط لا تجد شيئا تبقي عليه ولا شيئا تخسره، إنه القرار الصعب، ولكنه حتما القرار الأخير.
مرحلة جديدة متوقعة من الهجرة العربية، دول كثيرة في العالم اليوم وفي كل أنحائه، في كندا وأوروبا وأستراليا وأميركا، تشهد بنوكها إيداعات بمبالغ مهولة وطلبات هجرة غير مسبوقة من العالم العربي، ولا يوجد مجهود أو خطة حقيقية لإبقاء هذه الثروات البشرية والمالية التي متى ما خرجت لن تعود مرة أخرى أبدا.. وتكون الخسائر مضاعفة.