ليس الفقر بجديد على الناس، بل وُجِد مذ وُجِدت الخليقة وكان الخلق. وما تشرُّد بشرٍ داخل أوطانهم، ولا جوع فلاحين كرامٍ ينهضون كل فجر، ويشمرون سواعدهم إذ يفلحون أرض غيرهم، بأمر طارئ على المجتمعات والدول. الواقع يقول إن الفقر المدقع موجود في جهات الكوكب الأربع منذ الأزل، وباقٍ إلى يوم تُطوى السماوات والأرض. بيد أن المشكل هو في إغماض الأعين وغض البصر. هناك أناس يُفترض أنهم يحملون في رقابهم مسؤولية إطعام الجائع، وسد رمق كل ذي حاجة، لكنهم يغمضون أعينهم عن حاجات الناس، ويفتحون أبصارهم على أقصى اتساع عندما يتعلق الأمر بعقد صفقات تزيد من نهمهم لجشع الإثراء عبر كل طريق غير مشروع. وهناك آخرون المفروض أنهم جالسون في مواقع محاسبة الناهبين أرزاق غيرهم، إذ هم مديرون أو رؤساء أولئك الجشعين. مع ذلك، تراهم يغضون البصر، ما دام أن فساد بعض الذمم يدر عليهم من الفوائد ما يشبع النهم لاقتناء كل ما ليس بوسعهم امتلاكه وفق مداخيلهم المشروعة.
كم مر أن يجد مواطن نفسه مشرداً في وطن وُلد فيه، وترعرع صبياً كغيره من أتراب جيله، ثم عاش شباب عمره ناجحاً حتى بلغ المشيب، فإذا هو ضائع على أرصفة الطرق، أو أنه يفترش تراب ضيق الزوايا المعتمة في شارع أو زقاق، وفي أحسن الحالات قد يحظى ببقعة لقضاء الليل مفترشاً بقايا صناديق من ورق مقوى أمام واجهات محال تبيع أفخم البضائع خلال النهار. ما مررت بحالة تشردٍ، خصوصاً إذ المتشرد بلغ من العمر عتياً، إلا وأحسست بغصة الألم تسري كما لو أن الحالة تلبستني، فسارعت إلى التعوّذ من سوء العاقبة وكآبة المنقلب. بيد أن حقائق الأرقام تقول إن أعداد المشردين في بريطانيا آخذة في الارتفاع. وفق إحصائية رسمية، ارتفع عدد الذين لا يجدون المأوى الكريم في هذا البلد بنسبة 32 في المائة بين 2009 و2010 ليصل إلى 271 ألف حالة سنة 2016. فقراء بريطانيا، صاحبة أقوى خامس اقتصاد في العالم، غير القادرين على كسب قوتهم من دخول أولياء أمورهم، والمضطرين بالتالي إلى التردد على «بنوك الطعام» - وصف لمخازن مواد غذائية - عددهم أيضاً آخذ في التزايد، إذ ارتفع من 41 ألف حالة حتى عام 2010، إلى مليون و200 ألف مع عام 2017، وبلغ عدد الفقراء المترددين على هذه المخازن 560 ألفاً خلال العامين الماضيين.
ليس المشكل، كما ترون، مقتصراً على دول ضعيفة الموارد. لكن الأمر يغدو أكثر إيلاماً عندما يتزاوج فقر المجتمعات، من حيث الإمكانات الاقتصادية، مع فساد إدارات تعتمد مناهج يتعمّد القائمون عليها تشجيع الثراء غير المشروع على حساب تحسين مستوى عيش الناس المعترين. لن أذهب بعيداً في ضرب أمثلة مما جرى ويجري، منذ سنين، في عدد من مجتمعات العرب والمسلمين. يكفي أن أتذكر، إذ أفتح أوراق مشوار تجربتي الصحافية، ما سمعت من الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، من مُرّ الشكوى، خلال حوار معه تناول ظواهر الفساد في بعض مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، عموماً، وفي بعض أجهزة حركة «فتح» خصوصاً. كنا جلوساً بعدما انتصف الليل في صنعاء، وكان القيادي المؤسس صلاح خلف (أبو إياد) يتابع الحوار باهتمام. بلهجته المصرية المحببة إليه، قال لي أبو عمار يومها ما مضمونه: «عاوزني أعملهم إيه، تعبنا معهم، قلنا خليهم يسرقوا يمكن يشبعوا». المقصودون هم مسؤولون في المنظمة أو الحركة. شائع عنهم تقاضي العمولات وعُرف عن بعضهم تعمّد التضييق عند صرف مستحقات عوائل أسرى أو شهداء. بالطبع، جواب الرئيس الراحل يفتقر إلى أي منطق، لكنه، رغم ذلك، واقع حاصل في الحال الفلسطينية وغيرها.
هو واقع مؤلم، بلا شك، يمكن معه تخيّل آلام مساكين الناس كل يوم، وخصوصاً يوم العيد. ما أصعب أن تعمل في المزارع وأطفالك يعانون الجوع، أو أن تكنس ممرات مشفى ويصعب عليك أن تجد ثمن الدواء، أو أن يفتقد يتيم أباً كان يكد لأجل شراء ملابس العيد. طوبى، إذن، لكل من يمسح، وتمسح، يوم عيد الفطر، بعد غدٍ، أو السبت المقبل، دمع عين يتيم، أو آلام قلب يتيمة، فيخففان عنهما، ولو مقدار ذرة، عبء إحساس اليتم وأحزان اليتامى. ألا يزداد عيدكم سعادة، قدر ما تسعدون ذوي الحاجة؟ بلى.
8:2 دقيقه
TT
مشرّدون في الوطن
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة