د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

المعرفة أولى من الحديد

في مشهد عنتري لا يخلو من شاعرية، أظهرت صورة التقطت في قمة مجموعة الدول السبع، الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاقداً ساعديه أمام صدره، وهو جالس في مواجهة بقية رؤساء الدول الأخرى. هذه القمة النارية التي جاءت بعد أسبوع من إعلان البيت الأبيض قراره بفرض رسوم جمركية إضافية على الحديد والألومنيوم المستورد من دول الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، وفي حين توقع الكثير من المحللين أن تُحل الأزمة في القمة المنعقدة في ولاية كيبك الكندية، جاءت نتائج القمة بعكس ما هو متوقع. ففي حين حضر الرئيس الأميركي إلى القمة متأخراً، وغادرها مبكراً، للطيران إلى قمة أخرى تاريخية تجمعه مع رئيس كوريا الشمالية، سرق الأضواء بتغريدات نارية وصف خلالها الرئيس الكندي بـ«الضعف»، وذلك رداً على إصرار كندا على الرد الانتقامي المجدول الشهر المقبل على الضرائب الأميركية.
خطة ترمب لجعل الولايات المتحدة «عظيمة مرة أخرى» تضمنت دعم الصناعة لتوفير وظائف للمواطنين الأميركيين، كما تضمنت تقليل العجز التجاري بين الولايات المتحدة وغيرها من باقي الدول. وتطبيقاً لهذه الخطة، زادت الحكومة الأميركية التعريفة الجمركية على الحديد والألومنيوم المستوردين من بعض الدول. ويرى الرئيس الأميركي أن هذه الدول تستغل الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية أعلى من نظيرتها الأميركية مما يتسبب في العجز التجاري الحاصل، ولكن الأرقام تشير إلى أن الفارق في الرسوم الجمركية ليس عالياً، كما يُنظر إليه، فالفارق لا يتعدى 3 في المائة على الأكثر على المنتجات غير الزراعية، إلا أن ما يستند إليه الرئيس الأميركي هو فارق الرسوم على السيارات، حيث تصل الرسوم الجمركية على السيارات الأميركية في أوروبا إلى ما يقارب 25 في المائة، بينما لا تفرض الولايات المتحدة أكثر من 2.5 في المائة على السيارات الأوروبية، ولكن هل يستحق هذا الفارق أن يصعّد الرئيس الأميركي هذه الأزمة إلى ما هي عليه الآن؟ وهل سيستفيد المواطن الأميركي فعلاً من زيادة الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم كما يرى الرئيس الأميركي؟
تستورد الولايات المتحدة 44 في المائة من الحديد والألومنيوم من الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، وتستهلك ربع الكمية المستوردة للولايات المتحدة في تصنيع السيارات، أي أن زيادة سعر الحديد والألمنيوم المتوقع في أميركا بعد فرض هذه الرسوم سيشكل ضرراً كبيراً على صناعة السيارات الأميركية، خصوصاً أن هذه الزيادة في التكاليف ستضعف قدرتها التنافسية أمام بقية شركات السيارات في العالم. وبذلك فإن المتضرر الأول سيكون المستهلك الأميركي، الذي سيواجه زيادة في أسعار السيارات الأميركية بحكم ارتفاع تكلفة الحديد، وزيادة في سعر السيارات الأوروبية بحكم زيادة الرسوم الجمركية عليها. كما أن الاتحاد الأوروبي أيضاً قام بإعداد قائمة لمنتجات أميركية ستتعرض لرسوم جمركية إضافية، تبلغ قيمة هذه المنتجات ما يزيد على ملياري ونصف مليار يورو. ومؤكدٌ أن خريطة العالم التجارية ستختلف كثيراً في حال استمر أطراف الأزمة فيما هم عليه من رأي.
إدارة الرئيس الأميركي للملف الاقتصادي واجهت الكثير من التساؤلات، فوُصف من بعض كبار الاقتصاديين بالعالم أنه ينتهج سياسة «ميركانتلية»، مستخدماً قوة الولايات المتحدة السياسية في فرض توجهات محددة على التجارة العالمية والاقتصاد الدولي، ضارباً بذلك كل الشعارات الأميركية بحرية التبادل التجاري عرض الحائط. كما أنه وعلى الرغم من إقراره فرض الرسوم الجمركية الأسبوع الماضي، افتتح هذا المؤتمر بدعوة لجعل الدول السبع منطقة تجارية مفتوحة دون رسوم جمركية أو منتجات مدعومة، مصيباً بقية الرؤساء الستة بالذهول. وهو ما يطرح تساؤلاً مهماً وهو إلام يهدف بعد هذا كله؟ فهذه الرسوم لن تزيد أوروبا إلا قرباً من الصين، وبُعداً عن التحالف مع الولايات المتحدة، لا سيما أن التقارب بين أوروبا والصين سيزيد سهولة بعد إتمام طريق الحرير البري بينهما. وفي الوقت الحالي، تعد الولايات المتحدة الشريك الأكبر للاقتصاد الأوروبي بنسبة تبلغ 17 في المائة، إلا أن الصين ليست بعيدة بنسبة تبلغ 15 في المائة، وهذه النسبة قابلة للزيادة بكل تأكيد في حال استمرت العلاقات الأوروبية الأميركية متأزمة كما هي الحال الآن.
إصرار الرئيس الأميركي على العجز في التبادل التجاري، وعلى منتجات الحديد والألومنيوم، مستغرب في ظل توجه الاقتصاد العالمي نحو الاقتصاد المعرفي، فالمتوقع أن تحرص الولايات المتحدة على تفوقها في التقنيات العالمية مثل الذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء والجيل الخامس من شبكات الجوال، فهذه التقنيات تعطيها التفوق على المستويين الاقتصادي والعسكري، لا على المواد الخام التي لن تجد لها الولايات المتحدة فائدة إذا تأخرت في السباق التقني. ففرض هذه الرسوم قد يوفر وظائفَ كثيرة في المصانع الأميركية على المدى القصير وفي فترة ترمب الرئاسية، إلا أن التأخر المعرفي سيجعل هذه المصانع تتهاوى أمام منافسيها العالميين، تماماً كما تهاوت الصناعات الإلكترونية الأميركية أمام نظيرتها اليابانية في ثمانينات القرن الماضي.