لعل ما يلفت النظر من المعروضات في «فترينة» بريطانيا أمام الناظر الأجنبي، هو وزير الخارجية خفيف الظل ثقيل الوزن بوريس جونسون، سواء صورته مندفعاً بدراجته القديمة عندما كان عمدة لندن، أو بشعره الأشقر.
روح الدعابة وما يترتب عنها من زلات لسان، أهم «مواصفات» بوريس الذي كان من أهم دعائم حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولذا فالصحافة المؤثرة، أو صحافة المؤسسة وتشمل الصحافة التلفزيونية والإذاعية بزعامة «بي بي سي»، والشبكات التلفزيونية المتمركزة في العاصمة، تتربص ببوريس لتوظف زلات لسانه سلبياً، لأن هدفها الجماعي هو إبقاء بريطانيا داخل بيروقراطية بروكسل.
أغلبية الصحافة المقروءة، من منطلق تجاري، تعكس وجهة نظر قرائها المواظبين على شرائها (مشاهدة التلفزيون والإذاعة بالمجان)، لأنهم مع الخروج من الاتحاد الأوروبي.
قراء الصحف القومية اليوم في بريطانيا دون سدس السكان، بينما أكثر من ضعفيهم قراء مئات من الصحف المحلية. أرقام تعكس استطلاعات الرأي بالنسبة إلى الاتحاد. بينما الصحف التي توزع مجاناً في العاصمة تقف بشدة مع البقائيين، وهي مثل عمدة لندن صادق خان، وعدد من المؤسسات التجارية اللندنية، وبالطبع الخليط الكبير من الأجانب والمثقفين، بقائيون.
كلمات بوريس، سواء زلة لسان أو نكتة مقصودة في لقاء مغلق هذا الأسبوع تحولت في يد صحافة البقائيين إلى ما يشبه عصا موسى لشق هوة بينه وبين رئيسة الوزراء تيريزا ماي، آملين أن يبتلع البحر أهم رموز «بريكست».
ووجد «البريكستيون» فيها دليلاً على تنامي تيار داخل حزب الحكومة يريد موقفاً أكثر تشدداً في مفاوضات الخروج.
في لقائنا الصباحي اليومي مع فريق «10 داوننغ ستريت» سأل الزملاء من صحافة المثقفين: متى ستقيل رئيسة الحكومة بوريس؟ مراسلة «بي بي سي» في مؤتمر السبعة الكبار طرحت السؤال على رئيسة الوزراء مباشرة.
بوريس كان في حفل عشاء مع 25 ضيفاً من داعمي حزب المحافظين ومموليه. وبعد أن ألقى كلمة ظريفة طلب من الحضور توجيه الأسئلة، بشروط ما يُعرف بـ«اتفاق تشاتهام هاوس» (اسم مبنى المعهد الملكي للعلاقات الدولية، وهو اتفاق جنتلمان بأن ما يدور في الجلسة ليس للنشر أو البث، وإذا نُشر فيكون كمجرد تحليل غير منسوب إلى شخص بعينه).
أحدهم سجل على تليفون «ذكي» إجابة بوريس عن سؤالين من 25 سؤالاً ثم سرب التسجيل إلى موقع إخباري مع البقائيين.
السؤال الأول ليس سراً، بل معروف للجميع، وهو أن الموظفين الدائمين في الخزانة، وعدد من مستشاري وزارة المالية التي تتبع الخزانة لها، ووزير المالية نفسه فيليب هاموند، هم دينامو تشغيل الآلة البيروقراطية التي تحاول إبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وتعمل على عكس الإرادة الشعبية التي عبّرت عنها نتيجة الاستفتاء. بوريس قال إن هؤلاء البيروقراطيين يبالغون في الخوف مما يروج البعض له من خسائر اقتصادية على المدى القصير، قد تترتب على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
الإجابة الثانية فاجأت كثيرين، وكانت على شكل دعابة من بوريس، عما إذا كان يفضل تولي الرئيس دونالد ترمب قيادة فريق التفاوض مع الاتحاد الأوروبي؟
المقصود أن ترمب يتفاوض بخبرة وقوة، وكان سيضع مصالح البلاد قبل أي اعتبار آخر.
صحافة البقائيين فسّرت ذلك بأنه هجوم من بوريس على السيدة ماي واتهامها بالضعف والتفريط في المصلحة الوطنية.
الخروجيون قالوا إن بوريس ينبه إلى قوة موقف ترمب كرجل أعمال في التفاوض، عندما يتعمد إعلام الطرف الآخر بأنه مستعد لإدارة ظهره وعدم إتمام الصفقة إذا كانت غير عادلة، وهو ما لم تعلن حكومة ماي عنه بصراحة، لأن فريقاً من الوزراء، بزعامة وزير المالية موالون لأوروبا.
منصب رئيس الوزراء في بريطانيا له صلاحيات واسعة تمكّنه من إقالة أي وزير وإجراء تعديل وزاري. لكنّ جميع الوزراء منتخبون ولهم دوائر يمثّلونها، وتمرير أي قرار تريده الحكومة في البرلمان يعتمد على أرقام المقاعد، وبالتالي تحسب رئيسة الحكومة أي حساب قبل إقالة وزير له مؤيدوه من النواب.
نظام مجلس الوزراء البرلماني أيضاً يعتمد على ما يُعرف بالمسؤولية الجماعية. أي أن قرار رئيس الحكومة النهائي يتحمل مسؤوليته الـ22 وزيراً ووزيرة الآخرون الذين يتكوّن منهم المجلس الحالي. ولذا كان سؤال مراسلة «بي بي سي» لرئيسة الحكومة باعتبار أن استحضار بوريس لروح ترمب المتشددة في التفاوض، كان خروجاً عن المسؤولية الجماعية التقليدية للمجلس.
ومنذ استفتاء بريطانيا الأول عام 1975 على دخول السوق الأوروبية المشتركة لم يخلُ أي مجلس وزراء من الانقسام بين الموالين لأوروبا، وبين الذين يريدون الانفصال عن هذا التكتل. الفارق طبعاً أن بوريس، الذي يمثل اليوم رأس حربة فيلق الخروج من الاتحاد الأوروبي، له ما يُعرف بالبروفايل العالي أو تسليط الأضواء عليه، كما أن وسائل «فضح» ما يدور في الجلسات الخاصة، بالموبايل أصبحت أسهل مما كان عليه الوضع في الحكومات السابقة.
الانقسام يدور حول كيفية التعامل مع الاتحاد الأوروبي، حيث يشكّل التفكير الاستراتيجي تكتيك التفاوض والتعامل مع الجيران والعالم الخارجي. لكن أحياناً ما يكون تفكير الخصم أو الطرف الآخر مختلفاً تماماً، وهو أمر لا يقتصر على بريطانيا، بل تراه يتكرر في العالم العربي مثلاً.
بريطانيا بنت إمبراطوريتها بالتجارة، ولذا تتفاوض بعقلية براغماتية، وهي التوصل لمنفعة مشتركة، ويصعب على المفاوض البريطاني أن يتصور مثلاً أن يتعمد الأوروبيون الإضرار بمصالحهم سواء كانت صناعة السيارات والآلات المصدّرة من ألمانيا إلى بريطانيا أو المنتجات الزراعية والنبيذ المصدر من فرنسا. لكن الاتحاد كفيدرالية تعتمد الحماية الجمركية في سوق موحدة، هو هدف آيديولوجي لزعماء الاتحاد الأوروبي تتراجع فيه البراغماتية الاقتصادية إلى المرتبة الثانية، وهو تفكير غريب على الذهنية البريطانية.
نموذج رأيناه مثلاً في خلافات عربية سواء في رعونة زعماء أعْمتهم الآيديولوجية العاطفية عن أخذ المصالح الاقتصادية والوطنية الشعبية في الاعتبار، سواء بغزو الجيران أو دعم جماعات إرهابية في البلدان الإقليمية أو معاداة القوى العظمى والأسواق العالمية والتسبب أزمات اقتصادية. وربما كان ما يقصده بوريس جونسون هو أن الرئيس ترمب قد يكون نداً مناسباً للتعامل مع الاتحاد الأوروبي في مفاوضات الخروج الصعبة، باعتبار أنه لا يفكر بالطريقة البريطانية، لأنه قد يفاجئ الأوروبيين بما لا يتوقعون... وقد يكون الأمر إحدى نكات ودعابات بوريس حوّلتها الصحافة «من حَبّة إلى قُبّة».
6:18 دقيقة
TT
التليفون الذكي في حفل عشاء
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة