سباستيان مالابي
TT

الحكومة الإيطالية الجديدة وكسر الإرادة الأوروبية

تجاوزت أوروبا العديد من الصدمات – من انهيار منطقة اليورو تقريباً، والتدفق العارم لـ 2.5 مليون لاجئ، والاستفتاء على الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي – لدرجة تُغري بتجاهل الأزمة الوجودية الأخيرة التي بدأت تتكشف في العاصمة الإيطالية روما. ولكن، يمكن للحكومة الإيطالية الراديكالية الناشئة الجديدة أن تكون هي القوة التي تخرق تماسك القارة الأوروبية في نهاية المطاف. وعندما يعلن الرجل الذي من المفترض أن يشغل منصب وزير المالية الإيطالي الجديد أن «ألمانيا لم تغير من رؤيتها حول دورها في أوروبا منذ نهاية النازية»، فقد حان الوقت للاستيقاظ أيها السادة.
وسواء حصل باولو سافونا على المنصب المالي من عدمه، فما من شك في أنه يمثل الرؤية الشعبوية - تلك التي يمكن أن يكون لها تأثير مدمر على الأوضاع المالية في أوروبا. ويختلف شطرا الائتلاف الإيطالي الجديد – وهما رابطة الشمال اليمينية الشعبوية وحركة خمس نجوم اليسارية – بشأن العديد من القضايا المهمة، ولكنهما متحدان في توجيه اللوم في مشاكل إيطاليا بوجه عام على الاتحاد الأوروبي، وعلى ألمانيا بالتحديد. وبعد نشر تصريح سافونا الحاد في الصحف الإيطالية خلال الأسبوع الحالي، انطلق ماتيو سالفيني، رئيس رابطة الشمال، عبر البث المباشر على صفحته في الفيسبوك معلناً عن أن سافونا خبير اقتصادي كبير ومن القلة المعتد بهم في إيطاليا وفي العالم بأسره... وكانت غلطته الوحيدة أنه تجرأ على القول بأن الاتحاد الأوروبي قد عفّى عليه الزمن!
ولا يمكن بحال التغافل عن هذا الضجيج الهادر لأنه، وإن كان لا يخلو من الإشارة غير المبررة إلى النازية القميئة، فإنه يحتوي على الكثير من الحقائق. يمثل الاتحاد الأوروبي إحدى قصص النجاح العالمية الباهرة (السوق الموحدة التي تسهل التجارة في السلع والخدمات)؛ وسلسلة من التعاونات المفيدة (في مجال الأمن، والبحث العلمي، والتبادل التعليمي، وخلافه)؛ ومبدأ شجاع للغاية ولكنه خطير للغاية من الناحية السياسية (حرية حركة المواطنين)؛ والكارثة الصريحة المتمثلة في (العملة الأوروبية الموحدة). تسعى بريطانيا بكل جهدها لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وذلك لأنها ليست عضواً في منطقة اليورو، ويسمح لها سوق العمل المرن باستيعاب المهاجرين الأوروبيين بكل فعالية. غير أن إيطاليا تختلف عنها تماماً.
في واقع الأمر، فإن إيطاليا هي الملصق الصغير لكافة عيوب هيكل البناء الأوروبي، فهناك كم هائل من الديون الحكومية المرعبة، ليس لأنها تحظى بميزة طباعة العملة الاحتياطية العالمية (كما تفعل الولايات المتحدة)؛ وليس لأنها تملك البنك المركزي الوطني الذي يمكن الاعتماد عليه في القضاء على تكاليف الاقتراض (كما تصنع اليابان)؛ ولا حتى لأنها تخفي اقتراضها وراء الهندسة المالية على غرار وول ستريت والإحصائيات الوهمية (كما حدث في اليونان). بدلاً من ذلك، كانت إيطاليا تتسم بالتهور والرعونة وبشكل فج وصريح، نظراً لأنه هذه هي الحوافز التي خلقها النظام النقدي الأوروبي.
ويقر مزيج السياسات الأوروبية بهذه المشكلة؛ إذ يربط البنك المركزي الوحيد مع سياسة سعر الفائدة الواحدة بين تكاليف الاقتراض في البلدان الضعيفة والقوية بحيث يمكن للبلدان الضعيفة أن تتزايد ديونها بكل سهولة. ومن واقع الإقرار بهذه المغريات، فرضت أوروبا قيوداً على الاقتراض الحكومي، غير أن هذه القيود فشلت من زاويتين؛ الأولى أنها أكدت أن الكلمة الرئيسية التي سوف يسمعها الساسة الوطنيون من بروكسل هي «كلا» - كلا للمعاشات الحكومية، وكلا للإنفاق على البنية التحتية، وكلا لزيادة أجور المعلمين.
ثانياً، بسبب أن أية قاعدة من قواعد الميزانية هي قاعدة تعسفية حاكمة، إذ لم تُفرض القيود على الممارسات العملية، بل إنها تجمع بين أقصى درجات الاحتكاك مع أدنى درجات الفعالية.
وفي الأثناء ذاتها، ساهمت السياسات الأوروبية الأخرى في الترويج للمزيد من التهور والرعونة، إذ يتعامل البنك المركزي الأوروبي مع ديون الحكومة الألمانية وديون الحكومة الإيطالية على حد سواء، الأمر الذي يعزز الطلب على السندات الإيطالية التي تعتبر، خلافاً لذلك، عالية الخطورة. كما أن البنك المركزي الأوروبي يشجع الفرضية القائلة بأنه، في حالة وقوع الأزمة، سوف يتدخل لإنقاذ إيطاليا، مما يقلل المزيد من انضباط الأسواق. ولجعل المستثمرين يعتقدون أن إيطاليا سوف تكون قادرة على التخلف عن السداد في يوم من الأيام، يجب على أوروبا أن تكسر «حلقة الهلاك» بين الحكومة والنظام المصرفي، حتى يتسنى للحكومة إعلان الإفلاس من دون أن ينهار النظام المصرفي في البلاد. ولكن ذلك يتطلب وجود مساندة قوية من البنوك على مستوى القارة الأوروبية. وعلى الرغم من النقاش الجاد بشأن تأمين ودائع منطقة اليورو المركزية وسندات منطقة اليورو التي يمكن للبنوك الاحتفاظ بها بدلاً من السندات الوطنية المثيرة للشكوك، فلا تملك إيطاليا أياً من هاتين البطاقتين للعب بهما حالياً.
وفي غياب كل من الانضباط السياسي والانضباط في الأسواق، قامت إيطاليا – برغم ذلك – بالاقتراض. وعندما دشنت عملة اليورو للمرة الأولى في عام 1999، كان معدل الدين العام في إيطاليا مقابل الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 105 في المائة؛ واليوم ارتفع إلى 133 في المائة. ولا تزال نفس الحوافز واضحة في أماكن أخرى؛ ففي فرنسا، على سبيل المثال، ارتفع معدل الدين العام من 59 في المائة إلى 97 في المائة.
وعندما تعهدت الحكومة الشعبوية الإيطالية المنتخبة حديثاً بخفض الضرائب وزيادة الإنفاق، فإنهم يوسعون ببساطة من هذا النمط، وابتكارهم الرئيسي هو اعتماد الفجاجة الشديدة بشأن هذا الأمر. ومن شأن ذلك أن يزيد من معارضة بلدان أوروبا الشمالية لعمليات الدعم المستمرة لدى البنوك المركزية، الأمر الذي يسفر عن ترسيخ حلقة الهلاك التي تكرس هذه الحوافز لمزيد من اقتراض الحكومة الإيطالية.
* خدمة «واشنطن بوست»