محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

المقاطعة آفة الحوار

وجدت دليلاً علمياً حديثاً، يؤكد ما ذهبت إليه في كتابي الأخير «لا تقاطعني!»، وهو أن اضطرار الناس لمقاطعة المتحدث يتوقف على طبيعة أسلوب محدثهم، وفي بعض الأحيان جنسه.
هذا الدليل جاء بعد أن أمضت باحثة الدكتوراه كاثرين هيلتون، من جامعة ستانفورد العريقة، وقتاً طويلاً في دراسة خمسة آلاف شخص في الولايات المتحدة، عبر تفريغ حواراتهم المسجلة، لمعرفة ما هي أساليبهم في الحوار والمقاطعة، ومدى انعكاس ذلك على انطباعاتهم، أو بالأحرى إدراكهم لمن يؤثر المقاطعة على ممارسة فضيلة الإنصات.
فاتضح أننا حينما ندخل في حوار ما، فإننا قد ننتمي إلى فئتين كشفتهما الباحثة؛ الأولى من يميل أصحابها للحوارات المكثفة (intensitve) انطلاقاً من أسلوبهم الشخصي في الحوار، الذي تبين أنهم لا يحبذون فيه برهات الصمت بين المتحاورين؛ لأنها لا تشعرهم بالراحة، وأن تحدث جميع الأطراف في آن واحد هو أمر طبيعي بالنسبة إليهم، ويرمز لانهماكهم بالحوار. وذلك بخلاف الحال مع الفئة الثانية التي تحبذ الحوارات «الأقل كثافة»؛ لأنها تؤمن بأن تحدث أكثر من طرف في وقت واحد لا يشعر المشاركين براحة، ولا ينم عن التزام بأدب الحوار، بل يعتبرون صاحبها «فظاً»؛ لأنه لم يسمح للآخرين بالتحدث بأريحية من دون مقاطعة، وفق صحيفة «الغارديان». وهذه الفئة الثانية هي التي أميل إليها شخصياً، باستثناء اللقاءات الاجتماعية العفوية أو غير الجادة، بين المقربين أو أفراد الأسرة، بحدود معقولة.
صحيح أن الإنسان كتلة من المشاعر والأحاسيس، لا سيما إذا كان المتحدث من الجنس الناعم، غير أن الفوضى حينما تدب في الحوار، ويختلط فيه الحابل بالنابل، تفوت على جميع المشاركين معلومات مهمة، أو حقائق، أو أمثلة، أو استشهادات، فضلاً عن القفشات والنكات الباسمة، التي سرعان ما تضيع في صخب تحدث الجميع في آن واحد. ولذا كان من الأنفع والأمتع أن يمسك شخص واحد بناصية الحديث، شريطة ألا يستأثر به. فكلما تفنن المتكلم بالمباشرة بالطرح، سمح لآخرين بأن يدلوا بدلوهم. هنا تصبح فرصة الاستمتاع بالحوار الثري أكبر، خصوصاً إذا كان المتحدث ذكياً في اختيار موضوع يهم معظم من يرهفون إليه أسماعهم، ولا يمارس الخطأ الشائع الذي نرتكبه جميعاً، بالاستطراد في الحديث عن أنفسنا، متجاهلين دائرة اهتمام المستمعين. ومن يتجاهل تلك الدائرة يكون عرضة لسيل من المقاطعات لتغيير الموضوع أو تسفيهه.
وقد اختلف الباحثون في دراسات كثيرة قرأتها، في تعريف المقاطعة؛ لكنني قدمتها بتعريف مبسط، وهي «محاولة قطع حبل أفكار المتحدث من دون مبرر». والبعض لا يعلم أنه حتى الإيماءات هي نوع غير مباشر من المقاطعة المشوشة، مثل إخراج المستمع لهاتفه فجأة، وتأمله فيه، أثناء استرسال شخص يتحدث بحرقة!
والمفارقة أن الرجال كانوا أكثر ميلاً لاعتبار المرأة التي تقاطع الآخرين في حديثهم أنها فظة، وأقل لطفاً وذكاء، مقارنة بمعشر الرجال، وهو ما لم تشعر به النساء تجاه الرجال والنساء الذين كانوا يقاطعون. وهذا يعني أن هناك فروقات بين نظرة الجنسين، بعضهم لبعض؛ واللافت أن المشاركين كانوا أميركيين!
ربما نختلف حول المقاطعات المحمودة المطلوبة في مواضع معينة (أسهبت بها في كتابي)، غير أننا يجب ألا نتباين حول تداعيات المقاطعات السلبية التي تدب بسببها الفوضى والإحباط في حواراتنا.
[email protected]