د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الثقافة المالية

لعل نشر الثقافة المالية، وزيادة الوعي في صرف وادخار المعاش، هو أحد أكبر التحديات التي تواجهها الحكومات في آخر عقدين، فالحالة المادية للمواطن، والرفاه المالي له، مقياس أساسي للحالة الاقتصادية لأي بلد. وهي مشكلة لا تواجه البلدان النامية فحسب، بل إن معظم بلدان العالم تواجه مشكلة ضعف الثقافة المالية لدى العامة. وبحسب الدراسات، فإن أكثر من 70 في المائة من الأميركيين يعيشون من المرتب إلى المرتب، أي أن أي تأخير للراتب الشهري يقترن بأزمات مادية شخصية، سواء في المصروفات الشخصية، أو في سداد القروض أو البطاقات الائتمانية.
وفي بلداننا العربية، ينتشر هذا السلوك بشكل متكرر، وقد يكون أقرب الأمثلة لذلك هو ازدحام الأسواق في الأيام التي تلي صرف الرواتب الشهرية، وضعف حركة السوق في الأيام التي تسبق صرف هذه الرواتب. هذا السلوك يؤثر سلباً على الحركة التجارية، وعلى جودة حياة المواطن، باعتماده على راتبه ووظيفته بشكل أساسي، دون أي نظرة بعيدة المدى لمستقبله، إلى درجة قد تجعله إنْ فصل من عمله اليوم - لا قدر الله - قد لا يجد ما يسد رمقه في الشهر المقبل.
وتتفاوت الدول في تجاربها في نشر الثقافة المالية، ولعل أكثر التجارب انتشاراً هي تعليم الثقافة المالية في التعليم العام، وذلك بتحديد مادة منفصلة، أو مدرجة ضمن مواد الثقافة العامة، لنشر الثقافة المالية. وتمتاز هذه الطريقة بغرس فكرة الاستثمار والادخار منذ سن مبكرة، ويعيب عليها عدم امتلاك الطلاب أي خبرة في التعامل مع الأموال بحكم صغر سنهم، وبذلك تكون هذه الثقافة لديهم نظرية بحتة دون وجود أي خبرات سابقة تمكنهم من ربط المعلومة. كما تقدم بعض الشركات في دول أخرى دورات تدريبية للموظفين في بداية توظيفهم، تمكنهم هذه الدورات من فهم طريقة احتساب حساب التقاعد لديهم، كما تعطيهم فكرة عن خياراتهم في القروض الشخصية أو العقارية.
وهذا ما يقود إلى طريقة أخرى في نشر الثقافة المالية، وهي عن طريق استهداف فئات محددة، فعلى سبيل المثال تحتاج فئة معينة إلى فهم طرق سداد البطاقات الائتمانية، ومعرفة الفارق بين تسديد فاتورة البطاقة كاملة أو تسديد جزء منها، كما يحتاج الموظفون الجدد إلى معرفة القروض الممكنة لهم في حال أرادوا شراء منازل أو سيارات، ومعرفة الفوارق بين القروض الشخصية المتوفرة.
وقد يكمن التحدي الأبرز في نشر الثقافة المالية في إيجاد الحافز لدى العامة في تعلّم هذه الثقافة، فغالبية الناس يسألون عائلاتهم أو أصدقاءهم عند الحاجة إلى نصائح مالية، وقد لا يطلبون هذه النصائح إلا بعد تورطهم في الديون، سواء كانت من خلال قروض بنكية أو بطاقات ائتمانية. وقد أشارت دراسة إلى أن أحد البنوك قدّم دورة إلكترونية مجانية للمتأخرين في سداد بطاقاتهم الائتمانية، وكان عدد المسجلين في الدورة أقل من أربعة من ألف من مجموع المتأخرين في السداد، ربعهم لم يكمل الدورة. وهذا ما يثبت أن تحفيز الناس لرفع الثقافة المالية يعد تحدياً حقيقياً، خصوصاً أن التعلم عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي يفتقد للموثوقية في كثير من حالاته، وأخذ المشورة من البنوك أو المؤسسات المالية قد يفتقد إلى الموضوعية في بعض الأحيان، فهذه المؤسسات المالية قد لا تكون محايدة في مشورتها، بحكم احتمالية انتفاعها من المشورة.
وهذا ما يؤكد أن نشر الثقافة المالية مسؤولية تعود إلى الحكومات، فهي بلا شك مستفيدة من انتشار الوعي المالي لدى الشعوب، فاستقرار معدل الادخار عند نسب معقولة يُفيد البنوك المحلية، ويعطيها فرصاً للإقراض وتمويل المشاريع، كما أن التخطيط المالي للعامة يزيد من جودة حياتهم بعيداً عن الضغوط التي تسببها الديون والأزمات المادية. هذه المسؤولية الحكومية تشجع على إنشاء مؤسسات أو أكاديميات تُعنى بنشر الثقافة المالية لدى عامة الناس من غير المتخصصين، كما أنها قد تقوم بدور استشاري منخفض التكلفة.
وأخيراً، يجب توضيح أنه لا خاسر من زيادة الثقافة المالية لدى العامة، فلا التاجر يخسر بادخار المواطن، ولا جودة حياة المواطن تقل في حال ادخاره لجزء من دخله؛ بل الفكرة تكمن في أن يكون المواطن على بيّنة من مصروفاته بشكل يتوافق مع رؤيته وتخطيطه المادي.