فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

كفافي .. نحن لا ننتظر البرابرة

لماذا ننتظر كلنا، هنا في الميدان؟
لأن البرابرة يصلون اليوم.
لماذا لا يحدث شيء في مجلس الشيوخ؟
لأن البرابرة يصلون اليوم.
أية قوانين يسنها مجلس الشيوخ الآن؟
ولماذا يضع الشيوخ القوانين؟
عندما يأتي البرابرة، يسنون القوانين
(قسطنطين كفافي)

البرابرة قادمون؟ ولكنهم هنا. كانوا هنا منذ ألف عام. لم يبرحونا قط. استوطنوا فينا. صاروا نحن. صرنا هم. نحن الواحد في الكل، والكل في الواحد. ولدنا معا، وكبرنا معا. أخطأت يا صديقنا كفافي. نحن لا ننتظر البرابرة. أم ترانا ننتظرهم.. نحتاجهم كنوع من الحل؟؟ لكن البرابرة ليسوا على الحدود. عبروا الحدود منذ ألف عام. تعال وانظر. من الإسكندرية إلى بغداد. من الموصل إلى معرة النعمان. طردوا ابن رشد، وصلبوا الحلاج في أسواق بغداد. تعال وانظر ماذا فعلوا أخيرا بصديقك الشامي أبي تمام.
بالمناسبة، هل تعرفت على آثار قدميه على رمال الإسكندرية؟ كان قبلك هناك، وبالتحديد في جامع عمرو بن العاص، ليس بعيدا عن مقهاك التي تترقب فيها مجيء البرابرة، تلميذا نجيبا، يستمع للأساتذة، ويدون ملاحظاته في المنطق والفلسفة، ليتسلح بهما في مقارعة القصيدة فهو كان يعرف مثل أبيه الحطيئة، ومثلك أيضا، أن الشعر صعب وطويل سلمه. ولأنه يعرف ذلك، صار هو الشاعر، بات الشعر على يديه مقسوما إلى نصفين: ما قبله وما بعده. لا تصدق ما قاله يوما إن السيف أصدق أنباء من الكتب، وإن بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب.
لا تصدقه أبدا. كانت خيانة عابرة للنفس. كان في لحظة ضعف رهيبة، كما فعل الكثيرون قبله، وبعده، وما يفعله الكثير الآن من رهط الشعراء. كان في لحظة قصر بصر وبصيرة، أو قل إنها خيبة أمل، تطول أو تقصر، من الصحائف السود، كما يحصل مع كل الشعراء الأصيلين في كل العصور، أو قل إنها غلطة الشاطر، وإن تكررت كثيرا عند صاحب العمورية، كما فعل في مصر مع عياش بن لهيعة وفي الشام مع أبي المغيث، ثم في بغداد مع المأمون ثم المعتصم. أتفق معك، ليس مسموحا للشاعر أن يمدح السلطان حتى في انتصاره، فهذا واجب السلطان، وإذا لم ينتصر، فلماذا هو سلطان؟
وعلى أية حال، هذا موضوع آخر. أنت تعرف أحوال ذاك الزمان، وأحوال الشعراء فيه. هل ما يزال الشعراء كذلك؟ أسوأ بكثير؟ لتغفر لهم، فليس الكل مثلك يكتفي بتأمل العالم من زاوية مقهى صغير في الإسكندرية. نعم، لقد أخطأ صديقنا حبيب بن أوس. لكنه كان يعرف في أعماق أعماقه أن صفائح المعتصم والروم البيضاء ستمضي، وتبقى صحائفه السوداء.
نعم، جاءه الروم من الأمام والخلف، مثلما أتاه البرابرة اليوم أيضا من الأمام والخلف.. بعد ألف وقرنين. ألا ترى ماذا فعل أحفاد المغول في قريته الحورانية السورية الوادعة، «جاسم»؟ ألا ترى أنهم يقتلونه الآن للمرة الثانية في الحدباء العراقية؟ لكنه لم يحب يوما الصفائح البيض. لا تصدقه أبدا. كان يحب حواشي الدهر حين ترق، وقلما ترق، والتراب البني وهو يتشقق حين يشرب المطر، وقلما يشربه، والصحو الذي يكاد من الغضارة يمطر، ولو مرة في الحياة. لكنك أخطأت أيضا يا صديقنا كفافي. نحن لا ننتظر البرابرة. نحن البرابرة.