فهد الخيطان
TT

ديمقراطية الطوائف والقبائل

نصيب العرب من الديمقراطية هو ما ترونه في انتخابات العراق ولبنان، وما سترونه مستقبلاً على يد الميليشيات في ليبيا واليمن وسوريا.
اللافت في المشهد الكارثي، أن القوى التي ادعت طويلاً شعارات الحرية والديمقراطية والمقاومة هي اليوم في قلب اللعبة الطائفية. مثقفون وساسة من خلفيات يسارية وعروبية وعلمانية هم رأس الحربة في معركة الجماعات الطائفية والمذهبية.
وبفضل المال والإعلام والهيمنة الاجتماعية لم يعد هناك من متسع أمام الجمهور العام سوى الاصطفاف خلف الطائفة وزعيمها، وكلها على هيئة أحزاب معاصرة وقوائم انتخابية تنافس في أسمائها وشعاراتها أعرق الأحزاب الديمقراطية في الغرب.
البرنامج الحقيقي لتلك القوائم هو البرنامج السري: اتبع الطائفة وشيوخها وسادتها. وثمة إصرار عجيب في سلوك القوى الطائفية المهيمنة لا يترك الناس الغلابة أو المستقلين في حالهم، بحيث يصبح التجنيد الطائفي إجبارياً، بل ويفرض على الآخرين أن يكونوا مثلهم طائفيين، وإلا فلا دور لهم في اللعبة.
الحلبة الانتخابية لا تتسع إلا للطائفيين. الأحزاب ذات التاريخ القومي واليساري، ومعها الشخصيات المستقلة من بقايا تلك الأزمان، سارت على الدرب نفسه. كان عليها أن تكيّف خطابها الآيديولوجي، ماركسياً كان أم قومياً ليكون على مقاس الطائفة لتنال مقعداً على قوائم زعماء الطوائف، يسمى زوراً مقعداً برلمانياً يمثل الشعب الطيب.
في التجربتين العراقية واللبنانية ما يكشف زيف الادعاءات عن حرص وطني على البلاد والعباد، ودليله، بل أدلته الفساد المتفشي، ونهب أموال الدولة، وتردي الخدمات، وبلوغ الاقتصاد الحضيض.
الصراع الطائفي لا يحتمل الانشغال بالهموم العامة ومصالح الناس. الهم الأول والأخير تحصين الطائفية وصيانة مصالحها، وتشغيل ماكينة الدولة لتمكينها وإنتاج شروط ديمومتها.
في العراق فتح الاحتلال الأميركي باباً واسعاً لبناء دولة على أسس طائفية، وحين غادرها كان هناك من الموروث الاجتماعي والسياسي ما يعزز استمرار المعادلة. لم يتمكن العراقيون من دحر المعادلة التي ترسخت بعد نظام صدام الاستبدادي. كانت موجة الطائفية قد سرت في العروق، واستوطنت في النفوس، وباتت السبيل الوحيد لاستمرار الوضع القائم.
ببساطة شديدة، صارت القوى المهيمنة طائفية بامتياز؛ لأن ذلك هو الطريق الوحيدة للوصول إلى السلطة والتحكم في الثروة.
لبنان بلد محكوم بالطائفية منذ استقلاله، لكنه لم يكن يوماً خاضعاً على هذا النحو. كان المجتمع على الدوام قادراً على التعبير عن نفسه خارج الفضاء الطائفي. الحاصل في سوريا كسر التقليد السابق. إيران صارت في قلب المشهد، تدير الوضع في الميدان لا عن بعد. والمعركة من الشراسة بحيث لا تسمح ببقاء هامش ضيق لقوى مدنية تتحرك خارج الحيز الطائفي.
لمن يرغب في حق الترشح والمنافسة، مثقفون وفنانون وفنانات، لكن تحت عباءة السيد وخطاب الطائفة، بوصفه خطاباً جامعاً لا يعرف الإقصاء والاستئثار!
التقسيم لم يعد خطراً يهدد دول الفوضى العربية، ثمة وصفة جديدة تبقي الحال على ما هو عليه، لكن تحت حكم الطوائف. وقريباً سنشهد نسخة منقحة تضيف لهذا النموذج الفريد من الحكم أصنافاً جديدة. حكم قبائل وجهويات وأعراق ربما في بعض الحالات.
الموت البطيء في سوريا سيفرض نمطاً مشابهاً يتكرس كلما طال أمد الأزمة. الشرط الأساسي لقيام الدولة هو تلازم الوحدة مع السيادة. في سوريا لم يعد هذا متحققاً. الوحدة بالمعنى الشكلي قائمة في حدود الدولة السورية، لكن السيادة موزعة بين قوات دول أجنبية وميليشيات مذهبية ووحدات عسكرية جهوية ومناطقية، حتى داخل معسكر النظام ذاته.
وعندما تفلت السيادة من يد الدولة، تصبح الوحدة في مهب الريح، لكن ليس بالضرورة تقسيماً جغرافياً على مثال دول انهارت فخرجت من جوفها دول جديدة، إنما كيانات محلية ذات صبغة طائفية ومذهبية وقبلية، تمارس السيادة في نطاق جغرافي محدود دون انفصال نهائي عن الدولة. وفي اللحظة التي تحين فيها فرص الوحدة والسيادة من جديد، لا يكون أمام المتصارعين من سبيل سوى تقاسم المسؤوليات والسلطة على الأسس ذاتها التي نشأت في الواقع والتجربة، وبهذا تنهض دولة الطوائف.
في ليبيا اليوم حكومات وبرلمانات عدة تتقاسم جغرافيا البلاد، وبجوارها كيانات محلية ضيقة تحكم مدناً وبلدات صغيرة، وعدد مهول من الميليشيات والعصابات والمرتزقة من تجار البشر ومهربي المخدرات والسلاح.
هي باختصار، سراح مراح لا سلطة واحدة فيها، ولا وحدة سياسية تجمعها. ليس في الأفق ما يبشر بنهاية وشيكة للحوار والاحتراب المستمر بين الحكومات الليبية المتنازعة في طرابلس وبنغازي وسواها من السلطات المحلية التي نشأت بعد انهيار الدولة.
نظام حكم القذافي لم يترك إرثاً لليبيين يكفيهم شر التجارب المريرة والدموية، خلّفهم هكذا عراة من أي خبرة للتعايش والبقاء من دون حكمه، ففرض عليهم أن ينطلقوا من نقطة الصفر!
حظهم لن يكون أفضل من أقرانهم العرب. ملاذهم لن يكون أكثر حداثة وعصرية. هي الطائفة، وما دامت غير موجودة في ليبيا فالقبيلة حاضرة والجهويات ناضجة، ومعها ثروة نفطية تكفي للإنفاق على دويلات ترعاها الميليشيات المسلحة.
اليمن مستعد للتجربة منذ زمن طويل. الأنظمة المتعاقبة زرعت البذرة منذ عقود طويلة، وقريباً ستجني الميليشيات الحصاد. معادلة الوحدة والسيادة صارت مستحيلة في اليمن. من يصدق أن الحوثي الذي اغتصب عاصمة الدولة سيخضع لحكمها من جديد؟
هذا زمن العرب في العصر الحديث؛ عصر الذكاء الاصطناعي والثورة الرابعة. الطائفة تحل مكان الهوية الوطنية والانتماء القومي، والقبيلة مكان الدولة وسيادتها وقانونها.
لقد حدث ذلك في زمن قديم عاشت فيه أمم في الأرض عصور النهضة والتقدم وعلى حوافها قبائل وطوائف تتصارع على الفتات.