علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

اختلاف شكلي وهامشي بلا معنى

بدأ الدكتور أحمد العيسى نقده لوثيقة سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية الصادرة في عام 1968. بالقول: «لقد أشارت الوثيقة إلى غايات جيدة في معظمها، لكنها في أسسها وأهدافها العامة، وأهداف كل مرحلة تعليمية حاولت ربط كل عنصر بمناهج علمية تسميها إسلامية لكنها غير موجودة على أرض الواقع. ولم تمنح الوثيقة أهمية كبرى لتطوير التعليم، وفق قواعد البحث العلمي ومنهاج التفكير، والاستدلال العقلي، والاستفادة من علوم العصر وتقنياته، والاستفادة كذلك من تجارب الأمم والشعوب، والانفتاح الثقافي والفكري إلا النزر اليسير».
أما ملحوظته النقدية الثانية فهي «أن الوثيقة تحدد وظائف المرأة في الحياة ومجالات عملها المناسبة من وجهة النظر الدينية، حيث تشير إلى أن تعليم الفتاة إنما يستهدف تربيتها تربية إسلامية صحيحة لتقوم بمهمتها في الحياة، فتكون ربة بيت ناجحة، وزوجة مثالية، وأما صالحة، ولإعدادها للقيام بما يناسب فطرتها، كالتدريس والتمريض والتطبيب، لهذا كله تؤكد الوثيقة – أيضاً – أن تعليم البنات يجب أن يتم في جو من الحشمة والوقار والعفة، ويكون في كيفيته وأنواعه متفقاً مع أحكام الإسلام».
وأما ملحوظته النقدية فهي أن الوثيقة «ساهمت في إقحام النظام التعليمي في قضايا سياسية كثيرة مربكة، إذ حاول معدو الوثيقة رسم سياسة عامة للدولة من خلال وثيقة سياسة التعليم، فأقحمت التعليم في قضايا سياسية كلية، فذكرت – ضمن هذا الإطار – بعض الأسس العامة التي يقوم عليها التعليم، ومنها التضامن الإسلامي في سبيل جمع كلمة المسلمين وتعاونهم ورد الأخطار عنهم، والدعوة إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، والجهاد في سبيل الله، باعتباره فريضة محكمة وسنة متبعة، وضرورة قائمة..... بل إن الوثيقة – في جانب آخر – ترى أهمية الرقابة على الكتب الصادرة أو الواردة من داخل المملكة أو خارجها، فلا يسمح إلا بما يلائم عقيدة الأمة واتجاهاتها الفكرية وأهدافها التعليمية، كما أنها تعتبر أن وسائل الإعلام والتوعية والإرشاد ورعاية الشباب إنما تخدم الفكرة الإسلامية، وتخضع – في أهدافها ووسائلها – للسياسة التعليمية، ومن ثم فإنه يجب أن توجه عن طريق المجلس الأعلى للتعليم».
ويخلص من نقده هذا إلى «أن الوثيقة تعبر عن سياسة أمة خائفة على دينها وتراثها وقيمها، فهي تكبل النظام التعليمي برؤية سياسية آيديولوجية أحادية، وتكبل المناهج العلمية في الدراسات الاجتماعية والعلوم الإنسانية برؤى ترى أنها في مصلحة الفكرة الإسلامية، ولكن لا أحد يعرف بالضبط حدودها وضوابطها العلمية».
ويخلص – أيضاً – إلى أن الوثيقة «أصبحت مجرد وسيلة تجاذب ثقافي وسياسي، مما أدى إلى ضياع الرؤية الاستراتيجية والخطوات الصحيحة للإصلاح الشامل التي يمكن أن تحسم الجدل حول أولويات مشاريع الإصلاح...».
يشغل الحديث عن تلك الوثيقة حيزاً كبيراً في كتابه، لأنها من وجهة نظره هي أساس المشكلة في تعثر إصلاح التعليم، ومع هذا فإنه لا توجد أي إشارة تنبئ بأنه يعرف من كتبها، أشخاصاً وتياراً، ولا أنه تأخر البدء في تطبيقها في المقررات الدراسية ما قبل الجامعية إلى سنة 1980. وإن كان يجهل الأشخاص الذين كتبوها، فهو – بالتأكيد – لا يجهل اسم التيار الذي صدروا عنه في كتابتها، وهو تيار الإسلام الحركي. ولا يجهل أنه قد تأخر تطبيقها إلى ذلك التاريخ.
وفي ذلك التاريخ التغيير كان ملموساً ومحسوساً، وبخاصة في مناهج التعليم والإذاعة والتلفزيون ورقابة الكتب والمجلات، وهي من المجالات التي تعرضت لها الوثيقة في رسم سياستها وطريقة تسييرها وتوجيهها، وبخاصة في مناهج التعليم وجهازي الإذاعة والتلفزيون ورقابة الكتب والمجلات، وهي من المجالات التي تعرضت لها الوثيقة في رسم سياستها وطريقة تسييرها وتوجيهها. والتي هو تصدى في كتابه لقراءتها ونقدها... ولكن.
الوثيقة كتبها - كما قلنا غير مرة في سلسلة المقالات هذه – منظرون إسلاميون حركيون من العالم العربي ومن القارة الهندية، وهؤلاء منذ منتصف القرن الماضي كانوا يرون أن السعودية – لأسباب معينة – هي البلد المثالي لبث مشروعهم التعليمي والتربوي والسياسي والفكري فيها، ومن ثم إنفاذه أو تطبيقه.
إذا ما عرفنا مثل هذه المعلومة الأساسية، وهي أن الوثيقة تعبر عن تصورات الإسلام الحركي لما يجب أن تكون عليه الدولة والمجتمع الإسلاميان من منظورهم الخاص والمحدث، سيسهل قراءة الوثيقة وسنكون داخل السياق لا خارجه.
لنلحظ أن اختلافه مع ما صار يسمى تالياً أسلمة العلوم الاجتماعية والعلوم المحضة أو العملية، هو اختلاف شكلي وتفصيلي، فلو أن هذه العملية – كما في نقده – «موجودة على أرض الواقع» ولها «حدودها وضوابطها العلمية» لكانت الوثيقة عنده أشارت إلى غايات جيدة ليس في معظمها، وإنما في كلها!
في أواخر ستينات القرن الماضي وفي أول سبعيناته – وهي السنوات التي في ظلها كتبت الوثيقة – «تطويع العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية – جميعها – لغرض غرس العقيدة والفكر الإسلامي» كان لا يزال دعوات وتمنيات ومقترحات. ولا يعيبها أنها كانت كذلك، فالتنظير يسبق – أحياناً – الممارسة.
وفي أواخر سبعينات القرن الماضي وأول ثمانيناته كانت تلك الدعوات والتمنيات والمقترحات قد أصبح لها وجود على أرض الواقع، بعد أن دخلت إلى حيز التطبيق والممارسة وأنشئت لها مراكز في بعض الجامعات ومعهد عالمي شهير في أميركا، وأقيمت من أجلها ندوات ومحاضرات في بلدان عربية وإسلامية، وألفت فيها كتب بلغات متعددة ودُرِّست علوم كالاقتصاد والأدب وعلم الاجتماع وعلم النفس في بعض الجامعات العربية من منظور الأسلمة، وما يسمونه أحياناً بالتأصيل.
وكانت أداة الترويج والدعاية لعملية التطويع القسرية تلك هي مادة الثقافة الإسلامية المقررة على الطلبة في الثانويات العامة، والجامعات السعودية وبعض الجامعات العربية.
ومن خلال التنظير لما سمي أسلمة العلوم أو تأصيلها - أو ما سمي لغة الوثيقة تطويع العلوم - تحدث الإسلاميون عن حدود هذه العملية وضوابطها العلمية من منظورهم والتي انتهت عند طائفة مؤثرة فيهم إلى قصرها على العلوم الاجتماعية والإنسانية وعدم مدها إلى العلوم المحضة.
وبما أن الحال كما وصفت، فإن اختلافه الشكلي والتفصيلي أو الهامشي يصبح بلا معنى. وكان عليه أن يقول رأيه بصراحة في مسألة أسلمة العلوم الاجتماعية والإنسانية من ناحية مبرراتها النظرية ومسوغاتها الآيديولوجية، ومن ناحية تطبيقات تجربتها العملية: هل هو معها أم ضدها أم هو معها في جوانب وضدها في جوانب أخرى؟
إنه معها لكن على استحياء وبتردد ووجل، وهذا ما ينم عنه محتوى نقده لها، وانتظاره في حديثه عن تطوير التعليم الديني أن «يضيف» هذا التعليم إلى العلوم المستجدة – أي العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم المحضة – بعد أن يستوعبها أصحاب العلوم الدينية ويستفيدوا منها. كذلك إشارته في هذا الحديث إلى أن ثمة فجوة هائلة اليوم بين علوم الشرع وعلوم الواقع والحياة الاقتصادية والعلمية.
أما ملحوظته النقدية الثانية فبسبب تحرزه وتحوطه الشديدين، فليس واضحاً تماماً إن كانت نقداً لما جاء في الوثيقة عن تعليم المرأة ومجالات عملها أم هي عرض لها! إنه لو تمعن فيها جيداً لاتضح له أن كاتبي الوثيقة، هم من إسلاميي البلاد العربية والقارة الهندية، فبحكم الواقع الجاري في تلك البلدان يرون أن التدريس والتمريض والتطبيب مجالات عمل مناسبة للمرأة. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار السياق الديني المتشدد والسياق الاجتماعي المحافظ في السعودية، فإن ما كتبوه يعتبر وقتذاك موقفاً تقدمياً. هذا إذا ما أردنا أن نكون واقعيين وموضوعيين ومنصفين.
ولتفهم وجهة نظري، أشير إلى أن المرأة السعودية لم تدخل مهنة التمريض وتزاولها إلا منذ سنوات غير بعيدة. ولم تشهد هذه المهنة إقبالاً عليها من السعوديات إلا في السنوات الحالية.
إن ما كتبوه، نظراً للظروف التي أومأت إليها لا يستوجب النقد، وإن كان ثمة ملحوظة ما يمكن أن يقال هو أن ثمة مهناً كانت المرأة السعودية تزاولها حين كتبت الوثيقة، كالعمل في الإذاعة وفي التلفزيون والصحافة، مع ذلك فإنهم لم ينصوا عليها.
وهذا يعني أنهم لا يقرون عملها في هذا المجالات بدعوى أنها لا تناسب وفطرتها. وأن يحددوا وظائف المرأة في الحياة ومجالات عملها المناسبة من وجهة النظر الدينية، فليس فيه مأخذ عليهم، فهذا أمر طبيعي ومنطقي لأنهم إسلاميون – أساساً – والإسلاميون يزجون بوجهة النظر الدينية فيما لا شأن للدين فيه صلة وعلاقة. ولك – يا عزيزي القارئ – أن تشتد في عجبك حين أطلعك على أن صاحب الملحوظة لا يستطيع النظر للعملية التعليمية والتربوية بمعزل عن وجهة النظر الدينية! وللحديث بقية.