ليونيد بيرشيدسكي
TT

العقيدة القتالية البريطانية الجديدة تبدو مألوفة

تتعلق الحرب الحديثة، في جزء منها، بمهارات التسويق. ولذلك، وفي تقرير استعراض قدرات الأمن القومي، تخيرت الحكومة البريطانية اسماً جديداً، وعصرياً، ومفعماً بالتقنية هو: «استراتيجية الاندماج». وربما كان السبب وراء ذلك، جزئياً، هو النأي بالنفس عن اسم «الحرب المختلطة»، الذي كثر استخدامه في أغلب الأحيان لتوصيف القتال الروسي اليوم. ورغم أن الفارق غامض بعض الشيء فإنه مهم للغاية.
يقول مارك غاليوتي، الخبير في الشؤون البريطانية الروسية، كاتباً في إحدى المدونات التي أطلقت المصطلح المفتقر للدقة «عقيدة غيراسيموف» (مما سبب الندم الكبير للمؤلف): «لندعوها باسم الحرب غير الخطية، (وهو ما أفضله)، أو الحرب المختلطة، أو الحرب الخاصة. إن العمليات الروسية أولاً في شبه جزيرة القرم، ثم في شرق أوكرانيا، أظهرت أن موسكو تركز بشكل متزايد على أنماط جديدة من العمليات ذات الثقل السياسي في المستقبل».
وكان الخبير غاليوتي يشير إلى خطاب الجنرال فالري غيراسيموف، رئيس الأركان العامة بالجيش الروسي، الذي ألقاه في عام 2013، وفي خطابه هذا، عمد الجنرال الروسي إلى تحليل استراتيجية الحرب الغربية المزعومة، مستخدماً الدعاية والحرب الاقتصادية في إضعاف قدرات الخصم، تمهيداً لاتخاذ الإجراءات العسكرية بواسطة القوات الخاصة ومعاونة شركات الخدمات العسكرية الخاصة، والمعارضة الداخلية. وقال إنه ينبغي على روسيا استباق هذه الجهود بدلاً من محاولة استنساخها.
تهدف «استراتيجية الاندماج» البريطانية إلى «استخدام القدرات الأمنية، والاقتصادية، والنفوذ السياسي في تحقيق القدر الأكبر من التأثير في حماية أهدافنا، وتعزيز وترسيخ الأمن القومي في البلاد، وإنجاز الأهداف الاقتصادية والسياسية. وأحد هذه الأهداف يكمن في مواجهة النمط الراسخ من عدوان الدولة الروسية. وحتى الآن، فإن هذا العدوان يحمل طبيعة الاجتياح الكبير والمستمر».
غير أن العديد من الأفكار المطروحة تماثل تلك التي نوقشت من قبل في روسيا خلال الجزء الأول من العقد الحالي: تحديث القوات المسلحة مع التركيز على قدرات الانتشار السريع، وبناء القدرات السيبرانية القوية، وزيادة تجنيد المتخصصين في التكنولوجيا للخدمات الحكومية، وتوسيع النفوذ الدولي عبر الإعلام الوطني والمنظمات القوة الناعمة الخاضعة للسيطرة الحكومية، وتحسين الاتصالات الداخلية بأجندة الأمن القومي، وتقوية جهود مكافحة الدعاية المضادة، وزيادة المساعدات التنموية الأجنبية إلى الدول والمناطق الضعيفة. وكل شيء - من الابتكار الاقتصادي، والعلاقات العامة، والقدرات العسكرية، والمساعدات الأجنبية - هو جزء لا يتجزأ من الأجندة الأمنية، على غرار ما هو وارد في استراتيجية الأمن القومي الروسية لعام 2015، إذ تعبر عن منهج شمولي، أو منهج مختلط إن أردت تسميته. وهذه مسألة دلالات لغوية ليس إلا.
تحاول القوى المتنافسة إضفاء الطابع الدفاعي على استراتيجيتها على الدوام، وفي السنوات الأخيرة، كان للمملكة المتحدة كل الحق في الزعم بذلك أكثر من روسيا. فإن كانت المملكة المتحدة قد شاركت في العمليات العسكرية الأجنبية، فلقد كان ذلك تحت دعوة الولايات المتحدة وإشرافها. أما بالنسبة للعمليات العسكرية غير التقليدية، فلم تنفذ المملكة المتحدة أي هجمات سيبرانية معروفة، ولم تسلح هيئة الإذاعة البريطانية (التي يتوقف استقلالها نظرياً على ضمانات الميثاق الملكي) بالمتخصصين والخبراء على النحو الذي فعلته روسيا مع شبكة روسيا اليوم الإخبارية، كما أن بريطانيا لم تستخدم قوات المرتزقة في الصراعات التي خاضتها قط. ولم تقم بريطانيا مؤخراً بتسميم أي عميل أجنبي مزدوج سابق على الأراضي الأجنبية باستخدام غاز الأعصاب ذي الاستخدامات العسكرية مثل «نوفيشوك»، والمستخدم في الهجوم الأخير على العميل الروسي السابق سيرغي وابنته يوليا سكريبال في الشهر الماضي.
ولذلك، كان لدى وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون بعض المبررات التي تسوغ له القول: «كل ما تريدون معرفته حول الفارق بين بريطانيا الحديثة، وحكومة فلاديمير بوتين هو أنهم يصنعون (نوفيشوك) في موسكو، وأننا نصنع السيوف المضيئة في لندن». (وتشير السيوف المضيئة إلى آخر أفلام حرب النجوم التي أنتجت في المملكة المتحدة).
جاء التغير في الموقف الروسي من الموقف الهادئ في فترة ما بعد الحرب الباردة، إلى المواقف العدائية نتيجة إقناع الحكومة في عهد فلاديمير بوتين الشعب الروسي بأن كل ما صنعته الحكومة هو جزء من الأمن القومي للبلاد. ولقد كان قادراً على توحيد المبادرات الاقتصادية، والتكنولوجية، والإعلامية تحت مظلة كبيرة من الأمن القومي، ولإقناع الشعب الروسي بأنهم في حاجة إلى مداومة مراقبة الأعداء الخارجيين. وتقبل الشعب ما كانت تخبره به الحكومة، وبالتالي تحولت جميع مجالات الحياة في روسيا تقريباً إلى أدوات في لعبة التسلح القميئة.
تملك المملكة المتحدة ديمقراطية تاريخية وعميقة، ووسائل إعلام تعددية ومستقلة بصورة لا يمكن التلاعب بها بسهولة. ولكن نية الحكومة في صياغة استراتيجية القوة الناعمة عبر مختلف قطاعات الحكومة تشير إلى تطلعات لندن لتضخيم رسالتها المعلنة وبأي وسيلة ممكنة. وتتعهد الوثيقة باحترام استقلال الخدمات العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية، والمجلس البريطاني، والعديد من المؤسسات والعلامات التجارية البريطانية التي تساهم في القوة الناعمة للبلاد.
ومع ذلك، فمن الصعوبة بمكان، الحفاظ على استقلالية المؤسسات الإعلامية والثقافية في الوقت الذي تعتبر فيه من أدوات «استراتيجية القوة الناعمة» التي أعلنت عنها وتديرها الحكومة لخدمة أغراض الأمن القومي. فإن كنت أعمل لدى هيئة الإذاعة البريطانية، ولا سيما في الخدمات العالمية، فربما أحاول حماية استقلالي بصورة أكثر فعالية مما هو واقع ومعروف الآن.
ووزير الخارجية البريطاني على صواب عندما يقول إن أي قوة ناعمة بريطانية نابعة من قوة الخيال والإبداع والابتكار التي تتأتى من خلال العيش في مجتمع حر. وقد ترغب الحكومة في المساهمة في تعزيز هذه القوة الناعمة، ولكن إن تجاوز الإعراب عنها بصفتها جزءاً من الاستراتيجية الدفاعية العامة، الأمر إلى المحيط البشع من الدعاية الموجهة والمعلومات المضللة والأخبار الزائفة التي تقتات روسيا عليها اليوم، فسوف يسفر ذلك عن تقويض القوة والنفوذ البريطاني. وصحيح أن القوة الناعمة لا تعمل إلا إذا كانت مستقلة تماماً عن أي مخططات دائرية أنيقة من التي تدمجها ضمن النظم البيئية النظامية مثل القوات المسلحة.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»