رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

عفرين وسقوط الحكم مثل غيرها!

كان رأي كل المراقبين، عرباً وأجانب، أنّ الأتراك لن يدخلوا إلى عفرين، بل سيكتفون بحصارها وهذا إذا استطاعوا. لكن بخلاف كل التوقعات؛ فإنّ الأتراك دخلوا إلى عفرين. وباستثناء الشهر الأول من القتال، الذي سقط خلاله قتلى أتراك بالمدفعية الكردية من جوار عفرين؛ فإنّ معظم القتلى في الصراع على عفرين كانوا من العرب (المقاتلين مع الجيش التركي)، ومن المقاتلين والمدنيين الأكراد. وهكذا فإنّ مكاسب الأتراك العسكرية والسياسية، كانت أكبر من خسائرهم بكثير. وإذا استطاع الأتراك التقدم إلى منبج؛ فإنّ وجودهم على الأرض السورية، يصبح نحو العشرين في المائة، ويقارَن بوجود الأكراد والأميركان في مناطق شرق الفرات. ثم إنهم هم المظلة الوحيدة بمنطقة إدلب. ولأول مرة منذ بدء القتال في سوريا، تصبح الهجرة الكردية ضخمة من عفرين وجوارها، وهي تزيد على المائتين والخمسين ألفاً، ويمكن مقارنتها بهجرتهم وتهجيرهم من كركوك وجوارها بعد أن دخلها الجيش العراقي، وميليشيات الحشد الشعبي! وبالطبع يظلُّ من غير الممكن، ومن حيث الحجم، مقارنة الهجرة الكردية، بالهجرة والتهجير في أوساط الشعب السوري الأُخرى خلال السنوات الست الماضية؛ فالمهجَّرون الآن من السوريين من الغوطة الشرقية وحدها لن يقلُّوا عدداً عن مهجَّري عفرين وجوارها، إن لم يزيدوا!
وكما لم يكن الأسد والإيرانيون والروس رحماء بالعرب السوريين؛ فإنّ الأكراد ما كانوا رحماء بالمدنيين العراقيين والسوريين في المناطق التي استردُّوها من «داعش» بمساعدة الأميركيين في العراق وسوريا. فالأتراك يزعمون الآن أنّ السكان العرب بعفرين وجوارها تزيد نسبتهم على 55 في المائة، وقد هُجِّروا بالاستيلاء الكردي قبل 4 سنوات حتى لم تعد نسبتهم تزيد على 20 في المائة (!) رغم وجود مقاتلين عرب مع الأكراد تبلغ نسبتهم 15 في المائة، وعلى ذلك ما استطاع هؤلاء إقناع قوات حماية الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني، بالإبقاء على السكان العرب بتلك النواحي.
الأكراد مثل مجاوريهم العرب، ما كانت لديهم أهداف راديكالية في بداية الثورة السورية. وكان همّ قياداتهم من مثل صالح مسلَّم، حلّ مسألة الجنسية، وبعض المطالب الاقتصادية والإدارية المتعلقة باللامركزية، وهي لا تصل إلى حدود الحكم الذاتي. وقد تعايشوا مع النظام الأسدي في عدة مناطق مثل حلب ودير الزور، بعد أن أعطى النظام الجنسية لعشرات الألوف منهم عام 2012. لكن في عام 2013 وما بعد، تَرَدْكَلَ الأكراد وتأدلجوا كما تأسلحت وتأدلجت شرائح واسعة من العرب السوريين، بعد دخول السلاح إلى الأيدي بشكلٍ واسع. ولذلك فكما دخلت «القاعدة» (النصرة بعد ذلك) والفصائل والفيالق المسلَّحة بمئات الأسماء والألقاب على العرب السوريين، دخل حزب العمال الكردستاني إلى المناطق الكردية بشرق الفرات ليقود «حرب الشعب الطويلة الأمد» من أجل إقامة الكيان الكردي، الذي أرادوه أن يمتد عبر عفرين إلى البحر المتوسط، بحيث تصبح الدولة الكردية في سوريا مكتملة الأركان! ومع هذا التطور أُزيلت القيادات الكردية التي كانت لا تزال تشعر بسوريتها مثل صالح مسلَّم، وصارت سائر الفصائل الكردية المقاتلة بسوريا يقودها مقاتلون متمرسون قادمون من جبل قنديل.
لماذا لجأ الأميركيون الآتون عام 2014 لمقاتلة «داعش» بالعراق وسوريا إلى مقاتلي حزب العمال الكردستاني المصنَّف إرهابياً من جانب تركيا والولايات المتحدة؟ في العراق وجد الأميركيون بقايا من الجيش العراقي المتصدع، وقوات البيشمركة، وما وجدوا حرجاً في استخدام أفواج من متطوعي الحشد الشعبي الأوائل. أما في سوريا فما وجدوا في المنطقة الكردية قوات محلية يُعتمد عليها، كما أنّ تجربتهم مع المقاتلين العرب غير المتطرفين ما كانت واعدة. ولذلك سارعوا لاستخدام مقاتلي حزب الشعب الكردستاني المجرَّبين، وأقبلوا على تدريب آلاف من شبان الكرد في سوريا. بل إن إيران سمحت بنقل مقاتلين كُرد عبر الأرض العراقية، وشجّعت على ذلك، في الوقت الذي كانت فيه ومنذ أكثر من عام تُشكِّل ميليشيات عراقية وأفغانية وباكستانية شيعية للقتال في سوريا إلى جانب قوات بشار الأسد، و«حزب الله».
... وتردد إردوغان كثيراً في التدخل في سوريا ولعدة أسباب؛ أولها أنّ الجيش التركي ما كان يريد التدخل، ولا يعتبر الأمن القومي التركي مهدَّداً، ولأنّ الأميركيين والروس معاً ما كانوا يريدونه أن يتدخل، وأخيراً لأنّ الفصائل السورية المقاتلة، سواء أكانت أصولية أو غير أصولية، كانت تنوب عن الأتراك في مناطق الشمال السوري. فلمّا تدخَّل الأميركيون والإيرانيون وحزب الشعب الكردستاني معاً أو في نفس الوقت بعد خريف عام 2014، قال الرئيس التركي عام 2015 لرئيس الوزراء العراقي وللإيرانيين: كما أنه ليس للعراق مصلحة في قيام دولة «داعش»، أو دولة إقليم كردستان؛ فإنه ليس لتركيا مصلحة في قيام كيان كردي في سوريا. ومع ذلك فقد انقضى قرابة العام قبل أن يقرر إردوغان التدخل بسوريا: نجح في الانتخابات وصار رئيساً، وقاد الجيش التركي دونما شراكة، وأعاد العلاقات مع روسيا، وجهر بالخصومة مع الولايات المتحدة، وأدرك أنّ إيران لن تعترف به شريكاً إلاّ إذا صار عبر جيشه واقعاً على الأرض السورية، وصارت قطر شريكاً مُضارباً في الملف السوري، وملف الإخوان المسلمين في كل مكان.
يبدو إردوغان الآن آخر المتدخلين وآخِر الرابحين في الملف السوري أو في الحرب السورية. فهو لم يُسقط فقط إمكانية قيام كيان كردي على الحدود التركية، بل صار الحلّ السوري العام لا يمكن تصوره من دون موافقة تركية. إنما من ناحية أُخرى هو يعرف أنّ مشكلته مع الأكراد لا تجد حلاً لها في سوريا، بل في الداخل التركي، والأتراك فيه لا تقلُّ أعدادهم عن 15 مليوناً، وهو لا يستطيع شنّ حربٍ على طموحاتهم القومية إلى الأبد.
أما أكبر الخاسرين على الأرض السورية، فهو الشعب السوري، بمئات آلاف القتلى وملايين الجرحى، وملايين المهجَّرين في صفوفه، ومنهم الآن سكّان الغوطة الشرقية. وثاني أكبر الخاسرين ولا شكّ الأكراد السوريون... والعراقيون. وهذا التقدير ليس بسبب الخسائر البشرية والمهجَّرين، بل بسبب فقدان حلم الدولة أو الكيان في المدى المنظور. وهناك من يعتقد أنّ أكراد سوريا كان بوسعهم المراجعة وإعادة التقدير، بعد فشل استفتاء بارزاني والتداعيات الكارثية. فغير المسموح به في العراق رغم النضال الكردي الطويل، لن يكون مسموحاً في سوريا على حداثة حلم الكيان هناك. لكنّ هؤلاء يتناسون أنّ أكراد سوريا، شأنهم في ذلك شأن سائر فئات الشعب السوري، بل والنظام السوري نفسه، ما عادوا يملكون شيئاً من قرارهم رغم تضحياتهم الهائلة، منذ عدة أعوام؛ فكذلك أكراد سوريا صار قرارهم بأيدي مقاتلي حزب الشعب الكردستاني والأميركيين.
في القول المأثور: العبرة بالخواتيم! لكنّ هذا القول لا ينطبق على الأزمتين السورية والليبية فيما يبدو حتى الآن. فهذا الواقع الكارثي والمأساوي، ستتضح أهواله أكثر بعد نهاية الأزمة، وهذا إن كانت لها نهاية! فلو فرضنا أنّ الأميركيين والروس اتفقوا أو سيتفقون، فكيف يحصل ذلك، ولمصلحة مَنْ؟! وماذا عن جرائم إيران وتركيا، اللتين لا تتورعان عن أي ارتكابات، لحماية ما تعتقد كلٌّ منهما أنّه حصتها ومصلحتها. أما الضعفاء فلا حقوق لهم ولا مصالح!