نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

حكاية الاعتدال والتشدد في مسيرة عباس

يتساءل كثيرون عن دوافع خافية وراء الخطاب المتشدد للرئيس محمود عباس.
على امتداد مسيرته السياسية الطويلة، كان الرجل في مرحلة ما بعيداً تماماً عن أجهزة الإعلام، وفي مرحلة تالية كان خطابه الأهدأ والأكثر واقعية وإقناعاً من بين كل أصحاب الخطاب، وما أكثرهم على الساحة الفلسطينية.
وفي المرحلة الراهنة، انتقل إلى خطاب متشدد للغاية، لم يخلُ من مفردات غير مألوفة عنه في كل الظروف.
اجتهادات كثيرة ظهرت في تفسير هذا الانتقال شبه المفاجئ، وكانت استفزازات ترمب ونتنياهو، هي الأكثر تداولاً في تحديد الأسباب، لكن يبدو لي أن الأمر أعمق وأوسع من ذلك؛ ولهذا حكاية لا تبدأ من الشهور القليلة الماضية وما حفلت به من تطورات، وإنما من وقت بعيد يؤرخ لمحمود عباس فيه على أنه أول قائد فلسطيني من جيل التاريخيين والمؤسسين، يفكر من خارج الصندوق، ويقدِم على مبادرات ما كان غيره ليجرؤ على الإقدام عليها.
وكل الذين سبقوه بالتفكير من خارج الصندوق، أعدموا بتهمة الخيانة العظمى والتفريط في الثوابت.
غير أن الرجل ظل مواظباً على ما فكر فيه، ثم نجح أخيراً في أن يفرض تفكيره على الطبقة السياسية المؤثرة في الساحة الفلسطينية التي كانت مليئة بالأقطاب والأساطين، مثل ياسر عرفات وصلاح خلف ونايف حواتمة.
لقد خدمت نهجه واجتهاداته متغيرات دولية ذات طابع جذري، جرّد المواقف المبدئية القديمة من مرتكزاتها التحالفية، فاستبدلت التطورات بجمال عبد الناصر الملهم الأقوى للثوار العرب، أنور السادات الملهم الأفعل للواقعيين ممن سموا في ذلك الزمن بالمتنازلين.
وفي الحقبة ذاتها تقريباً تراجع نفوذ الاتحاد السوفياتي حتى انهار تماماً، وانقرض الحزب الحديدي ليحل محله قادة براغماتيون استبدلوا بالآيديولوجيا الحسابات والمصالح.
كان عباس مطلاً بوعي براغماتي على هذه المتغيرات، وباختصار الزمن، حفر نفقاً سرياً بدأ من أوسلو ليصل أخيراً إلى البيت الأبيض، وشاهد العالم لقطة تاريخية حين تصافح فيها قائد الثورة مع قائد تكسير أيادي المنتفضين، ليبدأ فصل جديد من المسيرة الفلسطينية، وصار يؤرخ له بمصطلح ما قبل أوسلو وما بعدها.
وحين وصل الجميع إلى استحقاقات لا يمكن الإقدام عليها، شاهد عباس بأم عينه نهاية ياسر عرفات، أي نهاية حقبة من اعتدال بتر في أول الطريق.
رهان الفلسطينيين والعالم الذين لم يكونوا يئسوا من محاولة السلام، تركز على الرئيس محمود عباس رفيق عرفات وخليفته، وظن صناع التجربة وخصوصاً الأميركيين والأوروبيين، أن ما لم يستطع قائد الثوار إكماله سيكمله قائد البراغماتيين، ولعل هذا كان سر الانتقال السلس للسلطة كما لو أنك تنقل شيئاً من يد إلى يد.
كنت معه في هذه الحقبة، وكنت متفهماً تماماً، بل وشريكاً في التجربة، لعلنا نصل إلى حلٍ يوفر دماء الفلسطينيين، ويحقق ما أمكن من تطلعاتهم المشروعة، وشهادة مني وكنت متوغلاً في الأمر، أن محمود عباس أرخى الحبل إلى أقصى مدى، إلا أنه فوجئ بحقيقتين صادمتين؛ الأولى أن الشريك الإسرائيلي أشبه بالنار التي كلما زودت بالحطب قالت هل من مزيد، وفوجئ كذلك بعجز الذين شجعوه وراهنوا عليه، عن مساعدته في تحقيق تقدم مقنع في مجال التسوية.
وتحولت «أوسلو» أمام ناظريه وفي فترة رئاسته إلى كابوس وليس إلى أمل، وكان أن اختصر توصيف المرحلة بجملة واحدة «نحن سلطة بلا سلطة».
كان عباس يتشاءم ويتفاءل على مقياس الإدارات الأميركية، وكانت كلها حتى نهاية حقبة أوباما تعطيه مسوغات منطقية للتفاؤل والرهان، غير أن هذه المسوغات اصطدمت جميعاً وبصورة كارثية بعدم قدرة الرؤساء على تجاوز الخطوط الحمر التي يتحكم بها الإسرائيليون داخل المؤسسات الأميركية.
يبدو على السطح أن قرارات ترمب بشأن القدس و«الأونروا» والاستيطان هي السبب المباشر لتغير خطاب عباس، غير أن هذه الأمور على أهميتها وأساسيتها في تشكيل الموقف الفلسطيني، كانت مجرد الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فوجد رجل الاعتدال الفلسطيني نفسه محاطاً بجدران عالية، جدار فلسطيني دمر وحدة البلد ونقل الحلول المرتجاة من السياسي إلى الإنساني، ورأى جداراً إسرائيلياً يسابق الزمن لابتلاع القدس مقدمة لابتلاع الضفة، ورأى جداراً أميركياً لا أمل في اختراقه بتوازن معقول بين الفلسطينيين والإسرائيليين ولو بالحد الأدنى، أما الذين يدعمونه ويتعاطفون معه، فتبدو قدراتهم على هدم هذه الجدران العالية محدودة بحكم انشغالهم في معالجة جدرانهم.
هذه حكاية الانتقال من الاعتدال إلى عكسه. خطاب عباس خلال الأشهر الأربعة الماضية هو صياغة لخلاصة مسيرة الاعتدال التي ذهبت بحسن طوية إلى اتجاه، فإذا بعوامل التعرية السياسية تقودها إلى اتجاه آخر.
وسواء اتفقت مع عباس أم اختلفت، فالرجل يستحق التفهم، فحكايته ليست مجرد حكاية تتصل بشخصه وسلوكه ورهاناته، إنها حكاية الاعتدال الذي يستحق الإنقاذ.