حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

العالم يستسلم أمام الوحشية؟

كل ما يتردد عن خلافات بشأن الوضع في الغوطة، بين الروس والنظام السوري ومن خلفه ميليشيات الحرس الثوري، ليس أكثر من ذرٍّ للرماد في العيون، وما يتردد من أن محور الخلاف يكمن في رفض دمشق – طهران، تسويةً هي بيد الروس، تقتضي إخراج إرهابيي «النصرة» والعودة إلى احترام وقف النار، هو لزوم ما لا يلزم!
وكل ما رُشِّح من معلومات جاءت في سياقٍ مبرمج وفحواها استياء روسي من إصرار النظام والميليشيات على متابعة الحسم العسكري، وما رافقها من تحليلات عن ازدياد التناقضات بين موسكو وطهران، لا يعتدُّ به، لأنه لولا القرار الروسي الذي تمَّ التهديد به من «سوتشي» لَما بدأت حرب الغوطة، ولولا الطيران الروسي الذي يتبع نهج الأرض المحروقة لما تمّ تقطيع الغوطة الشرقية إلى ثلاثة معازل ضيقة، ومن الأساس ابتزت موسكو مجلس الأمن الدولي بشأن القرار 2401، الذي صدر من دون أنياب، ومن دون آلية لتطبيقه، عندما تمكنت من أن تُدرج في متنه كل ما يُمكّنها من تأويله وفق حاجتها، ما أطلق يد الروس في التدمير والقتل، ووضع مئات الألوف من أهل الغوطة في قلب كرة نار غير مسبوقة، تبدأ في الثانية من بعد الظهر وتستمر حتى التاسعة من صباح اليوم التالي، لتبدأ بعد ذلك هدنة الاغتيال على المعابر فيما لو فكر البعض في الخروج من المقتلة المستمرة...
وقت مستقطَع تريده موسكو لهضم ما جرى، مستفيدةً من تناقضات بين الفصائل المسلحة من جهة، ومن جهة أخرى الرهانات الكبرى بمواصلة الحسم العسكري للنظام وطهران، فتحركت لإفهام الجميع حجم دورها، في استمرارية الحرب وآليات خفضها أو حتى وقفها، ومن أن القرار النهائي بيدها، وهي وحدها من يحدد هدف كل مرحلة وأدوار الآخرين، لأنه خلافاً لكل ما يتردد بشأن المواقف الأميركية والمواقف الأوروبية وقرار مجلس الأمن الذي خلا من الأنياب، يبدو العالم كأنه مستسلم أمام الوحشية، ويناقش في أنواع الأسلحة المستخدمة في إبادة المدنيين، ويكتفي الجنرال جيمس ماتيس بالقول: «غير مقبول»، رداً على سؤال عن احتمال استخدام الكيماوي مجدداً، وتستمر جريمة الإبادة عن سابق تصور وتصميم، والأدوات شبيحة النظام والمرتزقة الروس وميليشيات الحرس الثوري، يتناوبون على تدمير رئة العاصمة السورية، الغوطة، التي حوّلوها إلى أرضٍ محروقة، أرض موت ودموع، والعالم يتبارى في إطلاق تصريحات إدانة شديدة لم توقِف قنبلة ولم تنقذ روحاً، بينما واقع الحال أنه يتم التعامل مع السوريين على أنهم شعب زائد!!
400 ألف مواطن سوري هم من أسابيع تحت الحديد والنار برسم التصفية الجماعية، كأنها محرقة بشرية لخدمة «التجانس» السكاني، الذي ينادي به بشار الأسد، وتعمل له طهران بوهم تأبيد السيطرة الفارسية على منطقة تمثل القلب للعالم العربي، وما من دولة أو منظمة إنسانية تسأل للحث على المواجهة، بقدر ما يتواصل النقاش دولياً عن استكمال الأدلة لتوجيه ضربة إلى الآلة الأسدية. يتحدثون عن «جنيف» المؤتمر الذي أُفرغ من كل مضامينه، وعن «سوتشي» الصفحة التي لم تُفتح، وعن مسار «أستانة» الذي كما يبدو انتهت وظيفته، وتزامناً تنطلق التمنيات بغرق آلة القتل الروسية في المستنقع السوري (!!) باستعادة الكابوس الأفغاني، بينما الواقع مزيد من الاستباحة والاحتلال وتقاسم الجغرافيا السورية دولياً وإقليمياً، مع ثابت وحيد: سوريا «تتشلع»، بعدما باتت ركام بلد، والمجازر المتنقلة تتخذ شكل الإبادة الجماعية، ليطرح السؤال نفسه عن مدى الاقتراب الخارجي من تحقيق توافق دولي على تثبيت تقاسم النفوذ في سوريا، وربما إعادة النظر في الخرائط التي نعرفها، ما يؤدي إلى وقف شلال الدم؟
مهما كابر الروس فدرس مؤتمر «سوتشي» لترتيب حلٍّ عجول يضمن المصالح الروسية تلاشى، وهم رغم اتساع سيطرتهم، لا يملكون الكافي من الأوراق لفرض مشيئتهم، وهذا الإصرار على حلٍّ عسكري وعلى نصر حاسم في الميدان، هم من يدفع إليه قبل سواهم، سيزيد من حجم الضحايا ولن يوصل إلى أي مكان، والمسألة ليست أن الغوطة وحدها تقف في مواجهة العنجهية الروسية، فهناك من جهة المصالح الدولية والإقليمية التي فشل مؤتمر «سوتشي» في مقاربتها. الأبرز هنا هو الانخراط الأميركي الذي غيّر الكثير من القواعد، وباتت «أرباح» كل المتدخلين على الطاولة، خصوصاً طهران القلقة أكثر من سواها لأن كل أوراقها متحركة، وتدرك تركيا أنه لو سيطرت على عفرين فالوضع الكردي عصيّ على الترويض، ومع هذا المستجد يُرجح أن تخسر روسيا جانباً مما كانت تعتبره أرباحاً صافية، لذا باشرت موسكو البحث الجدي بوجود روسي مباشر مكثف في الميدان ودور مغاير مع كل مخاطره، كي تضمن الحفاظ على الجزء الأكبر مما تعتبره الكعكة السورية... وهناك ما يريده الشعب السوري، الذي نجح سلمياً عبر انتفاضته في إخراج نظام الأسد سلماً من أكثر من 50 في المائة من محافظات سوريا، قبل بدء الغزو الخارجي، والمعنى أن «الانتصار» لن يطوي طويلاً صفحة مطالبة السوريين بالحرية والعدالة والديمقراطية.
حتى اليوم التالي لا أولوية على وقف هذه الوحشية، المواطن السوري خسر الكثير، وعلى روسيا أن تدرك أن تكرارها نموذج التوحش الذي مورس في الشيشان، ليس سهلاً في سوريا مهما كانت المواقف الدولية اليوم ركيكة وهشة.