ديفيد اغناتيوس
صحافي وروائي. وهو محرر مشارك وكاتب عمود في صحيفة "واشنطن بوست". كتب ثماني روايات، بما في ذلك "جسد الأكاذيب"
TT

ينبغي لأميركا فتح قنوات اتصال مع روسيا

عبر سرده المثير للمشاعر لأسرة رومانوف، استشهد المؤرخ البريطاني سيمون سيباغ مونتيفيوري بمقولة بيوتر ستوليبين، وكان وزيراً لداخلية آخر قياصرة روسيا نيكولاس الثاني: «في روسيا، ليس هناك ما هو أخطر من مظاهر الضعف».
ولقد فسر مونتيفيوري تلك المقولة بأنه خلال ما يربو على ثلاثة قرون من حكم أسرة رومانوف للبلاد، لم تكن السلطة من أدوات حكم البلاد فحسب، وإنما كانت من أدوات النجاة والبقاء على قيد الحياة أيضاً. ولقد استشهد كذلك بكلمة المؤلفة الفرنسية مدام دي ستيل حين قالت: «في روسيا، الحكم الاستبدادي يلطفه تضييق الخناق».
جسد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه الأخلاق الرهابية الروسية، بأكثر من أي وقت مضى، خلال خطابه الرئاسي العدائي الذي ألقاه في الأول من مارس (آذار) الحالي حال تباهيه وتفاخره الكبير بالجيل الجديد من الصواريخ التي لا تقهر العاملة بالمحركات النووية، فضلاً عن الطوربيدات فائقة السرعة. واشتمل خطاب بوتين على عرض مرئي لنماذج من صواريخ كروز الجديدة التي كانت مخيفة للغاية لدرجة أنها تلحق الحرج الكبير باستوديوهات الإخراج الفني في هوليوود!
ما الذي ينبغي على الأميركيين أن يخرجوا به من خطاب الرئيس الروسي والتحديات السياسية التي يفرضها ضمنياً على الولايات المتحدة؟ سارع بعض من المحللين إلى توصيف مزاعم بوتين العسكرية بأنها محض خيال. وقال محللون آخرون إن التقنيات الروسية الجديدة التي ذكرها بوتين في خطابه معروفة سلفاً لدى أجهزة الاستخبارات الأميركية.
من الواضح أن الخطاب الرئاسي الروسي بمثابة رسالة موجهة إلى واشنطن، لكنها رسالة تشتمل على طبقات متعددة من المعاني المختلفة. فللوهلة الأولى، بدا الخطاب موجهاً لإثارة الرعب والفزع؛ لكنها تعتبر رسالة فاشلة بكل المقاييس على هذا المستوى. إذ تملك الولايات المتحدة قدرات عسكرية هائلة ورادعة لروسيا، بما في ذلك نظم الأسلحة الجديدة التي تضاهي على أقل تقدير ما وصفه بوتين في خطابه.
وعلى المستوى الأعمق، كان خطاب بوتين عبارة عن نداء لجذب الاهتمام من جانب الزعيم الذي يروم الانتقام لذاته من حالة الهوان التي نالت أمته في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي القديم. وعلى الرغم من جراح السيد بوتين، وقناعاته الشخصية الراسخة، فإن هذا المعنى هو أول ما جال بخاطري من معانٍ لخطابه الرئاسي الأخير، الذي يستحق استجابة متأنية ومدروسة.
وجوهر حجة بوتين في ذلك، أن روسيا قد نالها الكثير من التجاهل إبان سنوات ضعفها السالفة، وهي تؤخذ على محمل الجدية الآن فقط؛ لأنها تحمل أمارات القوة والتهديد. ويتذكر بوتين أنه قبل اعتلائه سدة الحكم في البلاد: «كان العتاد العسكري الروسي قد عفّى عليه الزمن، وكان الجيش الروسي في حالة مؤسفة، وإن شئت مزرية». ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، كما قال: «فقدت الأمة 23.8 في المائة من أراضيها، كما فقدت 48.5 في المائة من السكان، و41 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب 44.6 في المائة من القدرات العسكرية الإجمالية».
وقال الرئيس الروسي مضيفاً: «لم يكن أحد يرغب في الحديث إلينا بشأن جوهر المشكلة (أي توازن الأسلحة النووية)، كما لم يرغب أحد في الاستماع إلينا. فلا بد إذاً أن ينصت الجميع الآن».
إن بوتين يعشق استعراض القوة، لكنها القوة التي يسهل التنبؤ بها. وكثيراً ما أعلن رغبته في استعادة أمجاد روسيا الفقيدة منذ أن تولى الرئاسة للمرة الأولى عام 2000، وذكرت لائحة الاتهام التي أصدرها المستشار الخاص روبرت مولر في الشهر الماضي، وجود 13 شخصية روسية إلى جانب 3 مؤسسات متهمة بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، كما وصفت تلك المؤسسة الروسية، وهي وكالة أبحاث الإنترنت، التي وفقاً لروايات أخرى، أجرت اختبارات ميدانية لأساليب التلاعب بالإنترنت وفق توجيهات الرئيس الروسي في أوكرانيا عام 2014 قبل أن تستخدم الأساليب نفسها فعلياً ضد الولايات المتحدة في عام 2016، ولإدارة هذه الأعمال السرية، لجأ بوتين إلى حليفه وصديقه يفغيني بريغوشن، الملياردير فاحش الثراء، الذي ساعده في تنظيم إرسال المرتزقة الروس للقتال في سوريا.
كانت أوكرانيا بمثابة المختبر المفتوح لدى فلاديمير بوتين. ولقد حذر أولكسندر دانيليوك، رئيس مركز إصلاح الدفاع في أوكرانيا، في دراسة نشرت عام 2016 لصالح كلية الدراسات البحرية العليا، من أن روسيا «لا تشرف على تنفيذ عمليات المعلومات فحسب، وإنما هناك عمليات أخرى خاصة وسرية ضد أوكرانيا لما يزيد على عشر سنوات كاملة». وقال في خاتمة الدراسة: «إن روسيا لا تتأهب للحرب ضد الغرب، بل إن هذه الحرب قد بدأت بالفعل، لكن وفق الشروط الروسية الخاصة».
أما مقترحات الرئيس الروسي بتجديد المناقشات مع الولايات المتحدة فهي لا تعني أنها فكرة سيئة لا تستحق الاعتبار لحال. فسوف يُعقد حوار جاد بين كل من إسرائيل، واليابان، والهند مع روسيا بشأن قضايا السياسة الخارجية الرئيسية، لكن الولايات المتحدة لن تكون طرفاً في ذلك. وهذا من الأخطاء الواضحة، ولا سيما في الآونة الراهنة.
ومن غير الحكمة بالنسبة للولايات المتحدة، على سبيل المثال، أن تقرر على نحو مفاجئ إلغاء المحادثات بشأن الأمن السيبراني، التي كان مخططاً انعقادها في نهاية فبراير (شباط) الماضي مع 17 عضواً من الفريق الروسي تحت رئاسة مستشار الأمن السيبراني للرئيس الروسي أندريه كروتسكيخ، وهو أحد كبار خبراء الإنترنت في الحكومة الروسية. وجاء الرد الروسي بإلغاء المناقشات المخطط لها أيضاً بشأن الاستقرار الاستراتيجي. ولا يزال جيشا البلدين يجريان مشاورات «نزع فتيل التوتر» على أساس يومي في ساحة المعارك المزدحمة في منطقة الشرق الأوسط، لكن ينبغي لحالة الحوار أن تكون أوسع نطاقاً مما هي عليه.
وهذا المشهد الروسي - الأميركي القاحل يعد نتيجة عكسية لمحاولات فلاديمير بوتين التدخل في الشؤون السياسية الأميركية، وتعزيز المرشح الذي ظل يتفاخر بعظمة وروعة الزعيم الروسي، ومدى رغبته الأكيدة في التقارب معه. ومن المفارقات الواضحة، أن انتخاب الرئيس دونالد ترمب قد جعل من الحوار السياسي مع روسيا أكثر سمية مما كان، وتلاشى من على الرادار كل ما يتعلق بمفاوضات الحد من التسلح من أجندة الولايات المتحدة الأميركية.
يقول المؤرخ البريطاني مونتيفيوري عن أسرة رومانوف: «في الدولة الاستبدادية، تتعاظم السمات الشخصية، وكل ما يحمل الصفة الشخصية يتحول إلى السمة السياسية». إن وجود بوتين من الأمور التي لا محيد عنها ولا مفر منها. ولسوف يواجه الجيش الأميركي أسلحة بوتين النجمية الساحقة، لكن وفي الأثناء ذاتها، ينبغي على الدبلوماسية الأميركية محاولة فتح قنوات اتصال أفضل. قد يكون تجاهل روسيا جيداً على المستوى التكتيكي، غير أنه مكلف للغاية على المستوى الاستراتيجي.

- خدمة «واشنطن بوست»