حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

الصدق منجاة!

إذا استثنينا رجل الأعمال ذائع الصيت مايكل بلومبيرغ الذي تحول بعد ذلك إلى عمدة مدينة نيويورك، فإن أهم عمدة في تاريخ هذه المدينة الكبرى وأشهرهم هو إيد كوش.
عرف هذا الرجل بأسلوبه الإداري الفريد جداً من نوعه، فكان باستمرار ينزل إلى الشارع ويسير وسط الناس ويسألهم من دون أي مقدمات «ما رأيكم في أدائي»؟ كانت فلسفته وتبريره لهذا التصرف هو أن سكان المدينة هم بمثابة «عملائه» أو «الزبائن» و«لا بد أن أعرف منهم مباشرة وبلا أي وسيط عن رضاهم عن أدائي، فهم وحدهم المعنيون». تذكرت كل ذلك وأنا أتحاور مع وزير عربي مرموق جمعتني معه الصدف مؤخراً وتبادلنا أطراف الحديث وتم التطرق إلى الأساليب الإدارية التي يجب اعتمادها وكيف أنه «غير» من سبقه في المنصب، وأن غرضه التطوير والتقدم، ولكن الناس «لم تستوعب» مقصده وهدفه. وبدأ في شرح طويل ومفصل في التحديات التي يواجهها ولا يقدر عليها غيره ولا يقدره أحد على تلك المهمة.
ولما وجدني لا أعلق على ما يقوله فما كان منه إلا أن سألني: لماذا لا تشاركني في الحديث؟ قلت له: أنت لا تحتمل الرأي الآخر وتسعى إلى قبول وتأييد فقط وتعتبر أي نقد اعتراضاً وإنكاراً. عموماً أنا من مدرسة تؤمن أن أي قرار يجب أن يؤدي إلى مصلحة عامة ولا يكون مضراً تماماً، كما تعلمنا مقاصد الشريعة أن الشرع لا يأتي إلا بخير، وإذا كان يوجد ضرر فلا يكون ذلك شرعاً. إنك مطالب بفتح خطوط تواصل واضحة وشفافة ومحترمة مع «زبائنك» والاستماع إليهم بعمق واحترام وجدية وعدم التعالي عليهم واعتبارهم أنهم «لم يفهموا مقصدك» فبالتالي يكون «العيب فيهم». قلت له: تذكر جيداً حواراتنا قبل تسلمك ووصولك إلى هذا المنصب. لقد كنت متفهماً جداً ومقتنعاً للغاية للكثير من النقاط نفسها التي ذكرتها لك في آخر لقاء لنا عن التحديات التي أمامك «حاول الاعتراض» قلت له: هذا يعني أننا أمام واحد من أمرين لا ثالث لهما؛ الأول: أنك غيرت رأيك تماماً، ربما لأن المنصب فرض عليك هذا التغيير في الرأي، والأمر الثاني هو أنك لم تكن مقتنعاً بالقدر الكافي ولم يكن موقفاً مبدئياً أو لم تكن فاهماً ومستوعباً له، وفي الحالتين يبقى العيب عندك.
أنهينا الحديث بشكل ودي وغادرت المكان وأنا لدي قناعة متزايدة بأن مشكلة بعض الوزراء في العالم العربي هي حالة هائلة من الفجوة الانعزالية بين صناعة القرار ومتلقي القرار، فهناك ازدراء لوسائل الإعلام من قبل هؤلاء الوزراء، إضافة إلى اعتبار حق المواطن في التساؤل نوعاً من أنواع الفضول اللاداعي له والتطفل الزائد عن حده. وهذا تلقائياً ما يولد حالة محرجة وسلبية جداً من انعدام الثقة وبالتالي التشكك المستمر في التصريحات والوعود، وهذا لا يساعد أبداً على زرع الطمأنينة وبناء روح الأمل وسط جو ملبد مليء بالشائعات والضوضاء والسلبية والتشاؤم.
التواصل المباشر هو أقصر الطرق بين المسؤول والناس والصدق دائماً منجاة. هي حكمة قديمة جديدة وما كان ينطبق بالأمس يصلح اليوم أيضاً.