صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«المحور الخماسي» تحوُّلٌ استراتيجي و«سوتشي» بدأت وانتهت فاشلة!

كلَّما ظنَّ طيبو القلوب أنَّ هذه المنطقة، التي تتعالى ألسنة النيران في العديد من دولها، ذاهبة إلى الاستقرار والهدوء، يستجد ما يبدد هذا الظن، ويزيد الأوضاع سوداوية وقتامة، ويعزز الاعتقاد بأن القادم أعظم وأسوأ وأخطر، وأن العنف سيتواصل، وأن التمزق سيستمر، وأن بعض الدول العربية التي تفشت فيها الأمراض الطائفية والمذهبية، التي جاءت «فيروساتها» مع التمدد الاحتلالي الإيراني في العراق وسوريا، وأيضاً في اليمن ولبنان، ستصبح دولاً وربما غير عربية، فالتشظي في ظل هذه الظروف، وكل هذه المستجدات، قادمٌ لا محالة اللهم إلا إذا تدخلت العناية الإلهية، وحالت دون حدوث كل هذه التوقعات المرعبة.
فالوضع الفلسطيني، رغم صمود الفلسطينيين وتمسكهم بأرضهم، يبدو أنه ذاهب إلى نفق مظلم بالفعل، وبخاصة بعد إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) أن اتفاقات أوسلو قد انتهت، وبعد ما ثبت أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ذاهب بالشوط حتى النهاية، وأنه مصمم على قراره بمنح القدس كلها للإسرائيليين، لتكون عاصمتهم «الموحدة الأبدية»، وذلك رغم مناشدات وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري للقيادة الفلسطينية بأن عليها المزيد من الصبر والمزيد من الصمود، لأن الرئيس الأميركي سوف يغادر البيت الأبيض قريباً، وأن تنحيته أصبحت تحصيل حاصل!!
وهنا فإن الأخطر فعلاً هو استجابة أبو مازن لحركة حماس ولبعض الأصوات المرتفعة حتى في «فتح» المطالبة بحل السلطة الوطنية، والتخلي عن كل هذه الإنجازات المهمة فعلاً التي تحققت من خلال اتفاقات أوسلو هذه التي غدت تراوح مكانها، فهناك قرار دولي بالاعتراف بدولة فلسطينية تحت الاحتلال، وهناك تحولات مهمة في هذا الاتجاه من قبل عدد من الدول الأوروبية الفاعلة، وهناك انحياز مائة وتسع وعشرين دولة ضد قرار ترمب، وهناك عزلة فعلية دولية غدت تعيشها إسرائيل في عهد هذه الحكومة الليكودية المتطرفة، وكل هذا بينما تتعاظم خلافات جدية داخل المجتمع الإسرائيلي.
والمقصود في هذا المجال هو أنَّ كل هذه التوترات والانهيارات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط لها انعكاسات في غاية السلبية على الوضع الفلسطيني، وأنه مع وجود هذه الإدارة الأميركية لا حل سلميّاً يلوح في الأفق، وأن هذا الاستعصاء سيبقى مستمراً إلى حين حدوث مستجدات واعدة، إنْ على المدى القريب أو على المدى البعيد، وهذا يعزز ضرورة مواصلة القيادة الفلسطينية السير في هذا الاتجاه الذي تسير فيه، والذي حقق إنجازات فعلية واعدة لا يمكن إنكارها لقضية فلسطين.
إن هذا بالنسبة للقضية الفلسطينية، أما بالنسبة للأزمة السورية، فإن الواضح أنّ هناك تحولات فعلية قد طرأت في الفترة الأخيرة على المحاور التي من المفترض أنها متصارعة في هذا البلد العربي، الذي بقيت أحداثه تنعكس على هذه المنطقة كلها، وبخاصة منذ عام 2011 وحتى الآن. والجديد في هذا المجال هو بروز هذا المحور، الذي يضم الولايات المتحدة، ومعها فرنسا وبريطانيا، ودولتين عربيتين هما المملكة العربية السعودية والأردن، والذي ظهر بعد اجتماع شبه سري في باريس عشية انعقاد مؤتمر سوتشي الذي بدأ فاشلاً، وانتهى فاشلاً، وتحول إلى تظاهرة لم يستفد منها إلا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذاهب لانتخابات يريدها تكريساً لزعامته ليس بالنسبة لروسيا فقط.
المهم أن اجتماع باريس هذا، الذي يعتبر تحولاً مهماً وفعلياً بالنسبة لمحاور «الصراع على سوريا»، وليس في سوريا، الذي كان مقصوداً أن يتم عشية انعقاد مؤتمر سوتشي، قد أصدر «ورقة» يوضح التدقيق على ما جاء فيها أنها أخطر كثيراً على بشار الأسد ونظامه وحلفائه مما يسمى مسار جنيف والمرحلة الانتقالية والحكم الانتقالي، وهذا هو ما أرعب هؤلاء جميعاً وجعل بوتين يتغيب عن «سوتشي»، وأدى إلى بعض «الترقيعات» التجميلية على البيان الذي كان صدر مسبقاً عن هذا المهرجان، الذي مهما حاول أصحابه إضافة المزيد من تجميله، فإنه جاء كمجرد تظاهرة تسويقية للرئيس الروسي مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الجديدة.
ولعل أهم ما جاء في هذه «الورقة» أنها أكدت وبوضوح أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن مستعدة للمساهمة في إعادة إعمار سوريا (فقط) عندما يتحقق الانتقال السياسي الجدي والجوهري والشامل عبر التفاوض بين الأطراف المعنية، برعاية الأمم المتحدة، لتنفيذ القرار 2254 وبيان جنيف عندما تتأسس بيئة حيادية تسمح بالانتقال السياسي.
والأخطر أن هذه «الورقة» قد جرَّدت رئيس الدولة، رئيس الجمهورية، الذي هو بشار الأسد من كل صلاحياته الفعلية، ورسمت الحدود بينه وبين رئيس الوزراء، وحيث لا يتم تعيين هذا الأخير وفقاً لقرار الرئيس، وذلك بالإضافة إلى سحب صلاحياته، أي الرئيس، فيما يتعلق بحل البرلمان أو المجلس الإقليمي... وهكذا وبالنتيجة فإنه بناءً على هذه الورقة سيتم إلغاء النظام الرئاسي المعمول به في سوريا منذ انقلاب حسني الزعيم عام 1949 وحتى الآن لحساب نظام برلماني فعلي تكون فيه السلطة العليا لرئيس الحكومة وليس لرئيس الدولة الذي سيصبح منصبه «بروتوكولياً» وشكلياً. وكل هذا في حين أن بيان مؤتمر «سوتشي»، حسب المسودة التي نشرت قبل اجتماعه، أي يوم الثلاثاء الماضي، قد جاء وكأنه في وادٍ، بينما «ورقة» اجتماع باريس الخماسي في وادٍ آخر، وقد جاء في مطلع هذا البيان: «إن الحرب في سوريا ضد الإرهاب تقترب من نهايتها» مما يعني أن المهمة الرئيسية لهذا المؤتمر، هي تكريس أن المعارضة السورية حركة إرهابية، وذلك بإضافة صيغٍ عامة لم تأتِ على ذكر المرحلة الانتقالية والحكم الانتقالي، وإن هي مرت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 مروراً عابراً، وركزت على رفع العقوبات المفروضة على النظام السوري، وعلى العديد من الأمور التي يفهم منها أنَّ بشار الأسد باقٍ في الحكم حتى نهاية «ولايته» الحالية، وأن بإمكانه الترشح لولاية ثانية.
السؤال هنا هو: ماذا يعني كل هذا التناقض بين ما جاء في بيان «سوتشي» المسبق وبين «ورقة» باريس الخماسية؟! والجواب أنه يعني أن هناك بروزاً لمحور جديد فعلي بالنسبة للأزمة السورية مقابل المحور الروسي – الإيراني، الذي كان كحصان جامح بقي يطارد في الميدان وحده وعلى مدى سبعة أعوام مما يؤكد أن الصراع في هذا البلد العربي قد اتخذ منحى جديداً وأبعد كثيراً أي إمكانية لحل قريب وفقاً لمسار جنيف 1 والقرار الدولي 2254، وفتح مجالاً واسعاً لصراع متداخل الأطراف قد لا ينتهي إلا بعد سنوات متعددة مكلفة ودامية طويلة!!
لم يكن هناك أي أمل قريب بوضع حدّ لهذه المأساة السورية، فالصراع في هذا البلد مع طول الفترة وتكاثر المتدخلين أصبح شديد التعقيد ومن الصعوبة، إنْ ليس من المستحيل، حله الآن بل عندما تصحو أميركا من غفوتها وتتخلص من سياستها الحالية بالنسبة لأزمة أصبحت ومنذ البدايات أزمة إقليمية ودولية، فإن هذا يعني أن هذه المنطقة ومعها أوكرانيا والقرم وبعض دول البلطيق وأيضاً أوروبا الشرقية مقبلة على مرحلة خطيرة وصعبة بالفعل. وهنا فإنه بالطبع لا يجوز الاستسلام لهذا الواقع ولكل هذه المستجدات المنتظرة على أنها قدر لا مناص من الاستسلام له، فهذا لا هو جائز ولا هو مقبول، ويقيناً إنه إذا وضع العرب، إن ليس كلهم فبعضهم، في كفة ميزان المعادلة الشرق أوسطية الصحيحة، فإنهم قادرون على مواجهة كل هذه التحديات، وأولها تحدي القضية الفلسطينية التي كانت ولا تزال وستبقى هي القضية العربية الرئيسية، رغم تكاثر هموم هذه الأمة في الفترة الأخيرة.