عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

وحش فرانكنشتاين الجديد في عامه الأول

أكمل الرئيس الأميركي دونالد ترمب عامه الأول في البيت الأبيض، أمس (السبت)، فـ«احتفلت» التيارات والمؤسسات المختلفة بالمناسبة، حسب انحيازاتها السياسية والاجتماعية. «احتفلت» بين علامتي التخصيص لحرية تفسيرها كل على ليلاه.
الغالبية الساحقة من المعلقين، خصوصاً فيما يسمى بـ«صحافة المؤسسة الليبرالية» المؤثرة في الرأي العام، لم ترَ في عام ترمب الأول سوى السلبيات، خصوصاً في زقزقاته «التويترية» التي يراها مؤيدوه، وهم أكثرية بين الأميركيين، أقلية في المؤسسة الليبرالية العالمية، يرونها استمراراً صادقاً في منهجه الشخصي، ووعوده الانتخابية، بينما يراها المنتقدون تغيراً مستمراً في سياسة البلاد في 140 حرفاً (180 في قول آخر).
مؤيدوه خارج أميركا أقلية غاضبة على النفاق وازدواجية المعايير من الصحافة والمؤسسة الليبرالية في عدم احترامها للناخب الأميركي، لرفضه اتباع توجيهاتها بانتخاب هيلاري كلينتون. وحفنة لا تعد على أصابع اليد فحصت حصاد عامه بحياد موضوعي لترصد ارتفاعاً بثمانية آلاف نقطة في الـ«داو جونز»، وتعافي الاقتصاد وانتعاش البورصة خلافاً للتوقعات عشية تنصيب ترمب رئيساً، ونجاحه في تمرير عدة تشريعات في زمن قياسي مقارنة بسابقيه، وموقفه المتشدد من كوريا الشمالية الذي دفعها للتقارب الدبلوماسي مع الجنوب، والاشتراك في الألعاب الشتوية في سيول.
وفي المقابل أدت تصرفاته غير التقليدية إلى فشله في إقناع الأوروبيين بدعم موقفه لاحتواء التهديدات الإيرانية للأصدقاء في الخليج وللسلام العالمي؛ كما أن نجاح الديمقراطيين في شل ميزانية الحكومة الفيدرالية في ذكري تنصيبه يراه المنتقدون فشلاً لإدارته، ومؤيدوه تأكيداً لموقفه الانتخابي بفساد «مستنقع» المؤسسة الحاكمة في واشنطن، وألعابها في مقايضة الصفقات السياسية، مما أدى لشل الحكومة الفيدرالية.
ترمب لم يخيب آمال مؤيديه باحتفاله بالعام الأول على طريقته الخاصة بمواجهة خصمه الأكبر (ليس روسيا أو الصين أو كوريا الشمالية وإنما الصحافة الليبرالية اليسارية، التي يسميها «fake news» أي «الأخبار المزيفة»). واجهها بأسلوب قديم قدم السياسة. التهكم، أو ما يسمى في الإنجليزية (satire)، هذا المصطلح ظهر للمرة الأولى بمعناه الذي نعرفه اليوم (انتقادات ساخرة سلبية بمحتوى سياسي، من الخصوم الأكثر قوة وجاهاً وسلطة) في كتابات لوسيوس أبيليوس (170 - 214م) وروايته الأشهر باللاتينية «الجحش الذهبي».
أما أقدم هجاء تهكمي مدون فهو من مصر القديمة في بردية أنسطاسي، وتعود إلى 1120 قبل الميلاد، التي تسخر من جهل الناس بالعالم الخارجي.
الأقرب المعاصر لروح الساتير بتعريف أبيليوس تراه في أدبيات خطيب الثورة العرابية من الإسكندرية عبد الله النديم (1842 - 1896) صاحب مطبوعة «التنكيت والتبكيت» الساخرة من السلطات، مما أدى لنفيه من مصر. وأبو السخرية السياسية في الصحافة (ومجموعة كتب) أستاذنا الراحل محمود السعدني (1928 - 2010) على لسان شخصيات كـ«الولد الشقي»، و«المتعوس المسافر»، وأدت به للسجن والنفي والتشريد من النظامين الناصري ونقيضه الساداتي. أيضاً المسرحي «المصري الفصيح» زميلنا الراحل علي سالم (1936 - 2015) الذي شملت سخريته الجميع كالسعدني.
وأحد أهم مقاييس تعريف «الساتير»، هو الفردية اللانتمائية لأي تيار سياسي. فالسعدني وسالم سخرا من أنظمة ثلاث جمهوريات متعاقبة وجشع التجار المنتفعين، ونفاق المشاهير، ومن أقدس المؤسسات وجهل العامة. الساتريست (satirist)، مثل «مونولوجست» يفضل تصفيق الجماهير على ذهب الحاكم، فردٌ يسخر من جبروت وقوة مؤسسة السلطة، سواء السياسية الحاكمة، أو الاقتصادية أو الاجتماعية الطبقية؛ جمهوره المتمتع باستعراضه هو الأغلبية الفقيرة المطحونة من الجماهير في كل عصر وكل بلد.
المفارقة النادرة تاريخياً أن ترمب، الرئيس الدستوري لأقوى دولة في عصرنا، هو المتمرد الساخر شاعر الهجاء وصوت سخط الجماهير المسحوقة ضد المؤسسة الأقوى جبروتاً من إدارته: «مؤسسة الصحافة الليبرالية».
موقف غير مسبوق أخل بالمعادلة المألوفة في التحليل السياسي.
احتفل ترمب بالذكرى الأولى لتنصيبه كـ«ساتيريست» بمنح أفضل (أسوأ بالتعبير الأدق) عشر جوائز للأخبار المزيفة.
مُنحت الـ«سي إن إن» أربع جوائز، و«نيويورك تايمز» جائزتان، وواحدة لكل من تلفزيون «إيه بي سي»، ومجلة «تايم»، و«واشنطن بوست»، و«النيوزويك».
الطريف أن لجنة التحكيم اختارت التقارير الخاطئة التي نشرتها الصحف، أو بثتها شبكات التلفزيون المعنية، أو تجنبها نشر الحقائق، لكن هذه الصحف نشرت اعتذارات وتصويبات، وأوقفت إحداها المراسل الذي فبرك الخبر عن العمل لشهرين.
جائزة ترمب للأخبار المزيفة كانت من نصيب بول كروغمان الذي توقع في «نيويورك تايمز»، فور انتخاب ترمب، انهيار البورصة والأسواق وخراب الاقتصاد، وبعد عام حدث العكس. أخطأ كروغمان باعتماده على معلومات مغلوطة قدمها خبراء. لكن هل التنبؤ الخاطئ «أخبار مزيفة»؟
بالطبع لا، فليس خبر حادثة، وإنما عمود في صفحات الرأي، ناقلاً عن خبراء الاقتصاد وأسواق المال.
لماذا اتخذ ترمب هذه الخطوة غير المسبوقة؟
في قصة فرانكنشتاين (نشرت 1818 بعنوان «بروميثيوس الحديث») للروائية الإنجليزية ماري شيللي (1797 - 1851) الجسم المكون من تجميع أعضاء بشرية مسروقة يوقظ جهازه العصبي بشحنات كهربية، فيتصرف كالأحياء، لكنه تحول إلى وحش خارج سيطرة الدكتور فيكتو فرانكنشتاين.
الصحافة الليبرالية اليسارية تقدم الرئيس ترمب على أنه وحش همجي مدمر في طيشه، وتتعمد استفزازه في أي مناسبة، متوقعةً رد فعل «وحشي» على «تويتر»، لكن الصحافة اليسارية الليبرالية هنا هي الدكتور فرانكنشتاين الذي صنعه.
لم يكن ترمب معروفاً خارج دائرة المستثمرين العاملين في قطاع العقار وعدد محدود من الساسة الجمهوريين قبل ترشيحه.
الصحافة وجدت في شخصيته المتمردة غير المألوفة في القاموس السياسي، الجديد والطريف المثير للجدل والضحك معاً؛ ولم تأخذه محمل الجد (بينما أخذ الناخب كلماته بجدية كأنها وعد من البطل المنقذ)، واعتقد الصحافيون أن أسئلتهم الاستفزازية هي «أسهم باريس» الموجهة لـ«كعب أخيل». الصحافة، خصوصاً التلفزيونية، صنعت ترمب دفعته للواجهة.
لكن المفاجأة الثنائية أفقدت الصحافة توازنها.
فرغم كل تقاريرها السلبية رفض الناخب توجيهاتها وفضل ترمب على كلينتون، ومن ناحية أخرى لم يتحول إلى نسخة من رونالد ريغان، واستمر في دوره الساخر المتمرد على المؤسسة.
رد فعل الصحافة على خيبة الأمل كان تخلي عدد كبير من الصحافيين عن الحياد المألوف، ليلعبوا دور الساسة المعارضين، وبعضهم يسعى بالفعل إلى تدمير الرئيس ترمب، أو إخراجه من البيت الأبيض.
ما يدعو للقلق أن الصحافة لا يمكنها أن تؤدي دورها الديمقراطي إلا بحياد كامل، فالسلطة الرابعة، كما سماها أدموند بيرك (1730 - 1797)، أهم دعائم الديمقراطية.