د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

فك الارتباط أم زوبعة في فنجان؟

فجأة ودون مقدمات أعلنت قيادات في حركة «نداء تونس»، من خلال بيان رسمي، أن الحركة قررت ما سمته فك الارتباط بحركة «النهضة»، وهو إعلان شغل الرأي العام واستأثر بالاهتمام نسبياً وكان يمكن أن يكون وقعه أكبر لولا الاحتجاجات التي اتخذت طابعاً عنيفاً والتي عرفتها البلاد مؤخراً.
فهل فك الارتباط المعلن هو مجرد إعلان المقصود منه تمرير رسالة إلى رافضي علاقة التوافق بين «نداء تونس» و«النهضة» أم أنّه قرار جاد؟ وأيضاً يجدر التساؤل عن مدى إمكانية استجابة الواقع السياسي الراهن لمسألة فك الارتباط المعلنة؟
ولكن قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال يبدو لنا أنّه من المهم التذكير بسياق ما قبل الارتباط وظروف الارتباط. لقد ولدت حركة «نداء تونس» ككتلة مضادة في الحياة السياسيّة لحركة النهضة التي فازت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر (تشرين الأول) 2011.. ساعتها كان هناك خوف شديد من أن تختطف حركة النهضة الحكم وتتغلغل في دواليبه. في هذا السياق، الذي تحكم فيه بشكل أساسي الخوف من الإسلاميين كان تأسيس حركة «نداء تونس» ودخلت النخب في حسابات من نوع آخر تتمثل بالأساس في قطع طريق الهيمنة على حركة النهضة وخلق كتلة موازية أو أكبر منها. لذلك كان التعليق على النشأة القوية لحركة «نداء تونس» بأنّها حركة ولدت كبيرة ولم تخضع لمراحل النمو الطبيعية. ولقد ولدت كذلك في الحقيقة لأن حجم الخوف كان موازياً، خصوصاً أن الحركة كانت التعويض السياسي للحداثيين والنّساء التونسيات الخائفات على فقدان مكاسبهن التشريعية.
إذن ظهور حركة «نداء تونس» هو نتاج استفادة من تأييد وأصوات مناهضي حركة النهضة الذين ضد وجودها في الحكم أصلا فما بالنا بأن تكون صاحبة الكتلة النيابية الأقوى في مجلس النواب مع ما يعنيه ذلك من صلاحيات في التشريع.
هذا ما قبل الارتباط أي قبل انتخابات أواخر 2014.
بعد فوز حركة «نداء تونس» في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأولى في تونس ما بعد الثورة حدث نوع من الانقلاب النوعي في الاستراتيجية السياسيّة لحركة «نداء تونس»، فالحركة التي ولدت وكبرت بسرعة متغذية من التعارض جملة وتفصيلاً مع حركة النهضة أجرت تكتيكاً مغايراً، تمثل في الانخراط في علاقة توافقيّة مع حركة النّهضة وتكوين حكومة وحدة وطنية، وكان المبرر المعلن هو أن استقرار البلاد ومصلحتها الوطنية يقتضيان التوافق بين الحزبين الأولين في البلاد باعتبار أن حركة النهضة كانت في المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2014.
هذا الاختيار الذي تبنته حركة «نداء تونس» لم يلقَ التجاوب لدى الكثير من قيادات الحركة وأيضاً منخرطيها، فدخلت «نداء تونس» في مرحلة من الانشقاقات الداخلية ورأت وجوه حداثية كثيرة أعطت أصواتها للحركة أن التوافق مع حركة النّهضة والتشارك معها بمثابة النكوص على التعهدات السابقة، حيث كرّرت قيادات «نداء تونس» في مرحلة الانتخابات أنّها لن تحكم مع حركة النهضة وستخوض مغامرة الحكم لوحدها مهما كانت الصعوبات.
إذن حدث الارتباط في جو سياسي فكري يغلب عليه الرفض والاستياء، فكانت النتيجة تراجع الحضور الرمزي للحزب، إضافة إلى التأثيرات السلبية للمشاكل والأزمات التي عرفتها «نداء تونس».
بعد الارتباط القسري جاء إعلان فك الارتباط في بداية هذه السنة الجديدة؛ الخطوة تمت قراءتها على أنّها مناورة سياسيّة تهدف إلى معالجة مشاكل الحركة الداخلية واستعادة الأصوات التي يمكن أن تكون قد ضاعت بسبب التوافق مع حركة النهضة. لذلك لاحظنا رد فعل طغى عليه الفتور في خصوص إعلان فك الارتباط.
من ناحية ثانية، فإن هذه الخطوة تبدو في مستوى الكلام دون الفعل، ويظهر ذلك في استمرار التمسك بخيار حكومة الوحدة الوطنية وبوثيقة قرطاج، أي أنّه لا تداعيات عملية لهذا الإعلان، حيث لم تجسده مظاهر عمليّة وهو ما يفسر الموقف الهادئ وشبه الصامت الذي اتخذته حركة النهضة إزاء إعلان «نداء تونس» فك الارتباط بها ودارت غالبية التعليقات غير الرسمية من جانب حركة النهضة حول التفهم، وأن حركة النهضة نفسها سبقت وأعلنت أنه جاء وقت الانتقال إلى العلاقة التنافسية بدل علاقة التوافق والتحالف وذلك بالنظر إلى المواعيد الانتخابيّة القادمة.
وفي الحقيقة من يضع في الاعتبار أن تونس ستعرف في شهر مايو (أيار) القادم الانتخابات البلدية وأنه في السنة القادمة ستنعقد الانتخابات التشريعية والرئاسية الثانية في تاريخ ما بعد الثورة، فإنه يفهم ما وراء الإعلان؛ ذلك أنه من جهة من الواضح أن الرسالة تخدم رمزياً ونظرياً على الأقل الحركتين معا، فكما أنّ هناك من يرفض تحالف «نداء تونس» مع النّهضة من الندائيين هناك من يرفض هذا التحالف في صفوف قيادات ومنخرطي حركة النّهضة أيضاً، إضافة إلى أن أي انتخابات تفرض بالضرورة علاقة مختلفة بين الأحزاب: علاقة التنافس وليس التحالف، خاصة عندما يكون التجاذب الآيديولوجي على أشده.
هكذا نفهم إعلان فك الارتباط بين حركة النداء والنّهضة، فهو ارتباط سيبقى رهن نتائج الانتخابات التي وحدها تحدّده ووحدها تفكه.