يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

إخفاق ملالي إيران

هناك خصوصية جوهرية في الحالة الإيرانية تبدو غائبة في قراءة ما يحدث من احتجاجات غير مسبوقة كماً نوعاً، وحتى على المستوى الجهوي- المناطقي، وطبيعة الخلفية السيوسيولوجية للناقمين على إخفاقات نظام الملالي المؤدلج والقمعي الذي لم يعد يحتمله الإيرانيون.
هناك تداخل كبير في طبيعة الاحتجاجات في الحالة الإيرانية حسب المعطيات الأوليات الشحيحة التي نشرتها وكالات الأنباء والتقارير الصحافية، فهي مزيج بين غضب واستهجان المجموعات والكتل ذات الطابع المدني والعلماني من جيل الشباب الناقمين على سياسات التدخل الإيرانية في قضايا عربية كلفت الكثير من الأموال الطائلة والجنود، هذه الاحتجاجات استعادت لحظة الشاشة والاهتمام لدى هؤلاء، وأنها كانت الأفضل للقومية الإيرانية التي هي في نظرهم امتداد تاريخي انقطع مع ثورة الملالي، كما أفرزت تلك الاحتجاجات طبقات جديدة من الفقراء الناقمين على انهيار الأوضاع الاقتصادية، وغلاء المعيشة، وإهمال البنى التحتية، وكل تبعات انخفاض أسعار النفط، واختناق فرص العمل حتى بعد حالة التسوية على المشروع الإيراني النووي... الاحتجاجات الأولى ركزت على سلطوية وقمع الحرس الثوري، وتدخل إيران في سوريا واليمن، وشعارات الفقراء من الشعب الإيراني ذهبت إلى أبعد من ذلك بالهجوم على خامنئي، وكلا الحراكين يفقد الناظم الحزبي والشخصيات الموجهة، على عكس الثورات العكسية شكلاً ومضموناً إبان الربيع العربي الذي قدر على إسقاط عدد من الأنظمة العربية بسبب أنها واجهت جماهير محمولة بخبرة الإسلام السياسي الذي وإن جاء متأخراً إلا أنه استطاع بسهولة خطف المشهد بسبب قدرته على التحشيد وخبرته في بناء شعارات وتحريكها كأدوات فعل سياسي احتجاجي.
المعارضة الإيرانية العلمانية أيضاً لم تجد، وهذه مفارقة، ذات الدعم والتأييد من الخارج.
على المستوى المناطقي بدأت الاحتجاجات خارج العاصمة على خلاف سابقاتها، فتصدرت مشهد، معقل نظام الملالي المدينة المحافظة ذات الأهمية الدينية والشعائرية، التمرد، وهو ما يعني أن حالة الإخفاق لنظام الملالي قد أصابت جغرافية نفوذهم واشتغالهم بشكل غير مسبوق حتى في عام 2009، كما أصابت من جهة أخرى مشروعهم التوسعي، فحسب عدد من التقارير الإخبارية ردد المتظاهرون عبارات تنادي بترك سوريا وشأنها، بل واستعادة نوستالجيّة لحكم الشاه، ورفع صوره في مدينة قُم، ومطالبة بإسقاط الجمهورية الإسلامية.
لا شك أن هذه الثورة أيضاً تلعب على عامل المناخ العام، حيث بات العالم مرهوناً للحداثة التكنولوجية التي تخدم المعارضين، كما هو الحال مع كل مكونات المجتمع، وهو ما يفسر سرعة رد النظام باستهداف منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الدردشة والفعاليات الإلكترونية الجمعية، والتي تتفوق في تأثيرها وطريقتها في الحشد على الطرق التقليدية كالنزول إلى الشارع، والتي يملك الحرس الثوري خبرة طويلة في قمعها وإخمادها.
وعلى ذات التباين مع مواجهة الربيع العربي فيما يخص تدخل الخارج وتأثيراته على السياسة الخارجية الإيرانية، فإن جزءاً من أزمة فشل الملالي هو قدرته على استثمار وكلائه في المنطقة وأذرعه من ميليشيات «حزب الله» إلى الحوثي، لتعزيز مكانته في الداخل لدى النخب والشرائح الموالية.
الاستثمار في الحالة الإيرانية يجب ألا يكون رهاناً على مآلات الثورة التي، كعادة موجات التنديد، لا تعبر عن حراك مجتمعي ولا عن سياق سياسي أو انتماء حزبي، بل على ضرورة حشد الرأي العام العالمي تجاه التجاوزات الإيرانية في حق القضية السورية، وفي هيمنة «حزب الله» السياسية في لبنان، وصولاً إلى ميليشيا الحوثي الذي يمده النظام الإيراني بالأسلحة.
الاحتجاجات الإيرانية باختصار تريد استرجاع مفهوم الدولة من اختطاف الملالي لجهة الثورة، وهو ما عكس قلق النظام الإيراني من هذه الاحتجاجات وتصريحات مسؤوليه تجاه المتظاهرين وعموم الشعب بالوعيد بالملاحقة والسجن وتطبيق اشتراطات تصحيحية مرهونة بوقف تدفق المظاهرات ذات الزخم الحاد للاحتجاجات والغضب الشعبي الذي استبدل بعبارة «الموت لأميركا»، «الموت للديكتاتور»، في إشارة إلى المرشد.
على المستوى الخارجي، فالاتفاق النووي أتاح لإيران بسط نفوذها في المنطقة، ليس عبر الاستفادة من المتنفس الاقتصادي بعد رفع الحصار، بل بإخراجها من محور الشر إلى دولة ذات نفوذ إقليمي من المفترض استثماره في الحرب على الإرهاب.
فتح باب النقد الذي دعا إليه روحاني قبل حتى هذه الاحتجاجات هو معضلة إيران مع الداخل، أو ما كان يطلق عليه «اقتصاديات المقاومة»، والذي عارضته الجماهير العريضة من الشعب الإيراني من مختلف الاتجاهات والمكونات، فالاتفاق النووي والتدخل السافر في سوريا لم يسهما في مسار التنمية أو تغيير الحالة الاقتصادية المتردية، والتي أسهمت في باب الاضطرابات والاحتجاجات الجمعية من شرائح متعددة من الإيرانيين.
الاستثمار في فشل الملالي وإخفاقهم يكمن في تعرية خطابهم وقناعهم السياسي الذي يخفي رغبة في هيمنة طائفية، فالشعارات التي يطلقها الساسة ذات الطابع الديني ليست إلا أدوات للتعبئة ولا تعبر عن أهداف نهائية غائية، خصوصاً ما يتصل منها بسيادة الدول وأمنها الذي يقوّض أبسط مفاهيم السياسة الدولية، فمن يقول إن تدخله في سيادة الدول وبناء أذرع وميليشيات عسكرية له يعني أنه إعلان عدم إيمانه بمفهوم الدولة والأمن الإقليمي والمؤسسات الدولية، فضلاً عن أن يكون حريصاً على أمن وازدهار ورفاه مواطنيه.