هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

الفرار من «فخ ثوسيديديس»

من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي، ذكّرتنا السنوات العديدة الماضية بأن السلام والاستقرار الدوليين ليسا من المسلّمات. وبدأت قضايا الحرب والسلام والنظام في العودة وطرح نفسها على الساحة العالمية. وعليه، فإن قائمة الكتب التي سأقترحها على القراء نهاية العام مؤلَّفة من كتب قادرة على تقديم العون لنا في فهم أسباب الاضطرابات العالمية وتداعياتها. وبعد قراءة هذه الكتب يتضح للمرء الدور الاستثنائي الذي اضطلعت به أميركا في التصدي لقوى الفوضى طيلة الأعوام الـ70 الماضية.
أول الكتب المقترحة «تاريخ الحرب البلوبونيزية» لثوسيديديس، ويعد من أمهات الكتب المعنية بالحرب والسلام. ويتناول الكتاب الصراع الملحمي بين أثينا وإسبرطة في القرن الخامس قبل الميلاد. وبينما كانت الأولى قوة بحرية ليبرالية تركز جلّ اهتمامها على التجارة، كانت الثانية مجتمعاً قائماً على العبيد، ويحمل صبغة عسكرية قوية ويشكل قوة برية كبرى. وتورط الجانبان في صراع استمر ما يقرب من 3 عقود أصاب الجانبين بالدمار، ووضع نهاية الحقبة الذهبية لليونان.
من ناحيته، تناول ثوسيديديس جذور الحرب وتاريخها الطويل، بجانب قضايا أخرى بالغة الأهمية، لا تزال تحمل مكانة مهمة في دراسة العلاقات الدولية حتى يومنا هذا: كيف تخلق الفترات الانتقالية التي تتضمن قوى صاعدة وأخرى آخذة في الانحسار، قلاقل كبرى، ودور الخوف والشرف والمصالح الذاتية في صياغة قرارات الدول، وفكرة أن يفعل القوي ما يحلو له والضعيف يعاني مجبراً، وكذلك دور الاختلافات الآيديولوجية في تعميق صراعات جيوسياسية بين الأعداء. ويوضح ثوسيديديس أن الحرب تكشف المعدن الحقيقي للإنسان.
وقد نالت بعض الأفكار التي طرحها ثوسيديديس اهتماماً ملحوظاً في الفترة الأخيرة، مع مناقشة غراهام أليسون، البروفسور بجامعة «هارفارد»، ما إذا كانت أميركا والصين بمقدورهما تجنب ما يطلق عليه «فخ ثوسيديديس»، والذي بمقتضاه تدخل قوة صاعدة في صراع مع قوة أخرى مهيمنة. إلا أنه من الأفضل العودة إلى العمل الأصلي الذي أكد مؤلفه عن حق بأنه سيكون «ناجعاً في كل الأزمان».
ومن بين الكتب التي تستحق حمل لقب خليفة كتاب ثوسيديديس، «مأساة سياسات القوى العظمى» لجون ميرشيمر، الذي نُشر للمرة الأولى عام 2014، ورغم أن السنوات أثبتت خطأ ميرشيمر في كثير من الأمور، خصوصاً ما يتعلق بالعلاقات الأميركية - الإسرائيلية ومقترحاته بخصوص استراتيجية أميركا الكبرى، يبقى هذا الكتاب واحداً من أهم ما كُتب عن السياسات الدولية.
وتكمن الفكرة المحورية للكتاب في أن العلاقات بين القوى العظمى مأساوية بطبيعتها، وأن دوافع البقاء وأوهام العظمة تدفع الدول بدرجات متباينة نحو الصدام، حتى وإن كانت تفضل مساراً أكثر سلمية.
وفي عالم يخلو من سلطة كبرى تفرض النظام، وحيث الدول ليس بمقدورها التأكد من نيات الدول الأخرى، وتأتي عقوبات إخفاق دولة ما في حماية نفسها كارثية... فإن كل هذا يخلق حالة من التنافس المستمر والحاد. ويؤكد ميرشيمر أن الدول سوف تستمتع فقط بالسلام والأمن اللذين تخلقهما.
أما الفصل الأخير من النسخة المنقحة، والذي يتناول أسباب اعتقاد المؤلف بأن صعود الصين سيخلّف تداعيات سلبية عميقة وربما غير سلمية، فتجب قراءته من جانب كل من لا يزال يعتقد أن بكين بمقدورها ببساطة أن تصبح «مشاركاً مسؤولاً» في النظام الدولي القائم اليوم.
إذن، كيف يمكن الإبقاء على السلام في ظل مثل هذا المناخ المتوتر؟
يطرح دونالد كاغان في كتابه «حول جذور الحرب والحفاظ على السلام»، الصادر عام 1996، الإجابة. عبر صفحات الكتاب. راجع كاغان عدداً من الحالات، من الحرب البلوبونيزية إلى الحرب العالمية الثانية والتي شهدت اندلاع حروب بين قوى عظمى، بجانب حالة بالغة الأهمية نجح العالم في تجنب اشتعال مثل هذه الحرب: أزمة الصواريخ الكوبية. وتكمن الفكرة الأساسية لكاغان في أنه، على خلاف ما يعتقده الكثيرون، فإن السلام ليس الوضع الطبيعي للأمور، لكن يمكن الحفاظ عليه عبر سلسلة من الجهود الاستثنائية من جانب القوى الراغبة في الإبقاء على النظام القائم في مواجهة تحديات حتمية. ويتحتم على هذه القوى التصدي لتهديدات السلام والاستقرار الدوليين في وقت مبكر، قبل أن تحشد هذه التهديدات زخماً وتبدأ الأنظمة القائمة في التداعي. ويتعين كذلك على هذه القوى السعي بدأب للحفاظ على توازن للقوى يمكّنها من كبح جماح أو التغلب على أي معتدٍ محتمل. وفي الوقت الذي شرح فيه ثوسيديديس مدى وحشية الحروب بين القوى العظمى، شرح كاغان، أحد كبار المفكرين الأميركيين، مدى صعوبة الإبقاء على السلام.
وبذلك ساعدنا دونالد كاغان على فهم دعائم السلام بوجه عام. وجاء ابنه، روبرت، ليشرح لنا فترة بالغة الأهمية ساد خلالها السلام بين القوى العظمى منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك خلال كتابه «العالم الذي صنعته أميركا»، والذي نُشر منذ عدة سنوات، لكن يبقى بالغ الأهمية في يومنا هذا.
يركز الكتاب على الدور الاستثنائي للولايات المتحدة في الشؤون العالمية منذ الحرب العالمية الثانية، في تعزيز التجارة الحرة وتشجيع نشر الديمقراطية، وقبل كل ذلك كبح جماح الصراعات الجيوسياسية التي عصفت بأوروبا وشرق آسيا لقرون قبل دخول واشنطن في تحالفات، ونشرها قوات لصد أي معتدين محتملين مثل الاتحاد السوفياتي. كما نجحت أميركا في وأد العداءات التاريخية بين حلفائها، مثل فرنسا وألمانيا في أوروبا، واليابان وكوريا الجنوبية في شرق آسيا.
في الواقع كان سيبدو في حكم الخيال لو أن أحداً قال إن العالم بعدما عانى ويلات حربين عالميتين في غضون ربع قرن سيحظى بسلام نسبي بين القوى العظمى على امتداد 7 عقود، لكن هذه تحديداً النتيجة التي عاونت الولايات المتحدة في تحقيقها. من جهته، أوضح كاغان أن الأميركيين نجحوا بشدة في دورهم كعامل يفرض الاستقرار، لدرجة أنه أصبح من السهل للغاية نسيان كيف كان العالم مكاناً خطيراً وعنيفاً، قبل أن يحمل الأميركيون على عاتقهم هذا العبء.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»