يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

مشروع الحوثيين الطائفي سيسحقه اليمنيون

هي معركة اليمنيين جميعاً، الشرعية التي تحقق انتصارات كبيرة رغم تكالب كل القوى الميليشياوية المسلحة في اليمن لهدف واحد تجتمع عليه طهران والحوثيون وإعلام الممانعة، وللأسف حتى قناة الجزيرة القطرية التي تحاول النيل من «عاصفة الحزم» عبر التحول إلى منصّة وذراع إعلامية لأنصار الله الحوثي حتى بات من قبيل المضمر السياسي سخرية أحد أبرز إعلاميي ميليشيا الحوثي وهو يشكر قناة «المسيرة» الناطقة باسم ذراع طهران في اليمن الحوثيين، وهو يقصد قناة الجزيرة التي تؤدي الدور ذاته في جنوح نحو التصعيد في كل الملفات التي تخص أمن المنطقة واستقرارها منذ احتضانها لصوت «القاعدة» و«داعش»، ثم «حزب الله» والحوثي وكل ما يضاد سياسات دول الاعتدال بقيادة السعودية في تحالفها الأضخم ضد التطرف سواء برافعة سنية أو شيعية ودون تفريق أو استثناء.
الحوثي نبتة لا يمكن لها أن تعيش في اليمن وفق انسلاخها من جلدها القبلي المناطقي وتحولها إلى تجربة مشابهة لـ«حزب الله» لكن في بيئة طاردة آيديولوجياً حيث لا يمكن الاستقلال بهويّة سياسية طائفية.
مشروع الحوثيين الانقلابي ما كان له أن يبقى هذه الفترة لولا تحالفه مع حزب المؤتمر المكوّن السياسي الأكثر تأثيراً في صنعاء قبل الثورة وبعدها الذي حاول أن ينتقم من كل الأطراف السياسية باحتضان الحوثي وتنازل الأخير عن مكتسباته من الثورة لصالح شره السلطة، واستغلال الطرفين لتردي الأوضاع في اليمن وانشغال العالم بلعنة «داعش» ليعيدا ترتيب الأوراق والأولويات والمكونات السياسية ونفوذها في صنعاء حيث مركزية العاصمة التي لا يمكن تمرير أي أجندة في اليمن دون السيطرة عليها.
ما أحدثه الحوثيون في اليمن هو استغلال رغبة النظام السابق إلى إعادة مشروعه بعد فشل مشاريع الربيع العربي في المنطقة لكنه أخطأ في قراءة حضوره خارج مناطق نفوذه في الشمال والمظالم الكبيرة التي ارتكبها والتي أحدثت فجوة سياسية لا يمكن أن تردم ما لم يسلم صنعاء إلى الشرعية، والأمر متصل بكتلتين سياسيتين؛ الأولى في الجنوب الذي يتعافى تدريجياً من حقبة هيمنة الشمال، وتعز المدينة المكلومة في كل فتراتها والتي لم تسحب قوات النظام السابق ولا الحوثيون مظاهر العسكرة ضدها واستهدافها حتى بعد اندلاع النزاع بينهما في صنعاء، وهو ما يعكس حالة التعقيد والتركيب السياسي في اليمن وأنه أكثر خطورة وقتامة من مجرد ثورة القبائل ضد انهيار الأوضاع في الشمال وهو ما قرأه حزب المؤتمر وصالح بشكل جيد ويحاول استثماره بحذر في استغلال نقمة اليمنيين على سلوك الحوثي، الأمر الذي يتحتم على قوات الشرعية قراءته بخطوات استباقية أكثر ذكاء بضرورة مطالبة صالح وقواته بالانسحاب من تعز والتركيز على سبب البلاء وهو تضخم حالة العسكرة لميليشيا الحوثي التي ابتلعت كل المقدرات السياسية والاقتصادية في صنعاء، وأعاقت عبر التترس بالمدنيين وتجنيد الأطفال وتثوير المدنيين ضد معركة طائفية لا قبل لهم بها.
ما يجب أن تفهمه القوى السياسية في اليمن هو أن مشروع أنصار الله الهجين بني على أنقاض تعثر المشروع السياسي ورغبة النظام القديم للعودة إلى الواجهة، بمعنى آخر عودة الدولة العميقة في إزاء الدولة الشكلانية؛ عودة دولة التحالفات والميليشيات واستخدام القاعدة ومقدرات الدولة عبر عقود أمام تجربة سياسية شرعية وليدة، سرعان ما تهشمت بعد اقتحام صنعاء في عام 2014. ومن هنا يمكن تفهم أهمية «عاصفة الحزم» ليس فقط لعودة الشرعية إلى اليمن، وإنما لإحداث قطيعة على الطموحات الإيرانية في الجزيرة العربية برافعة الميليشيا التي يقودها الحوثي، وهو ما لا يمكن أن يتم دون عودة الشرعية الضامنة الوحيدة رغم كل النقد الموجه نحو أدائها ودون تحرير كامل لمدينة تعز من أي استهداف والذي سيشكل بدوره عامل طمأنة لباقي المناطق المحررة لتفهم أن معركة صنعاء هي تحرير لليمن الموحد وليس موجة إنقاذ لفصيل سياسي ضد محاولات ابتلاع الحوثيين له.
رغم كل ما يقال عن الحرب في اليمن من أوهام قناة الجزيرة - المسيرة من تحريض سياسي واستغلال للمعاناة الكبيرة التي يعيشها اليمنيون والتي كان من الممكن أن تصبح أكثر تجذراً وعمقاً لو تأخرت السعودية عن قرار «عاصفة الحزم» الذي كان ضرورياً ولا يمكن الرجوع عنه لوقف تحويل خاصرة الجزيرة العربية إلى جيوسياسية إيرانية جديدة - فإن أهم مكتسبات التدخل السعودي هو تثبيت هوية اليمن المسلوبة منذ صعود أنصار الله، وإعادة موضعة البلد المهم استراتيجياً وجغرافياً إلى حضن الجزيرة العربية، باعتباره جزءاً عضوياً من العمق الاستراتيجي للعرب بحسب توصيف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وإذا كان العالم قلقاً وحق له من سلاح «حزب الله» وميليشياته العسكرية فإن اليمن البلد الفقير القبلي يجلس تحت ترسانة أسلحة تفوق 80 مليون قطعة سلاح على أقل تقدير، ولا يمكن التأثير فيه سياسياً دون معرفة المكوّنات الفاعلة والصراع السلطوي بينها قبل الصراع على السلطة المرتكزة في صنعاء تحديداً، بحيث لا يمكن لأي طرف سياسي أن يقتطع حصّة من السلطة إلا بتهديد العاصمة التي باتت مسرحاً لصراعات سياسية في غاية الخطورة والتذاكي والاستهتار بمقدرات البلد.
وللأمانة فإن معالجة المجتمع الدولي للأزمة اليمنية دون المستوى بسبب عدم فهم طبيعة هذه الجمهورية التي تنتقل من سلطة القبائل إلى سلطة الطوائف بسبب استهتار القوى السياسية الفاعلة وعدم أخذ المجتمع الدولي لأزمته بشكل جدي على الأقل في المطالبة الجادة والحازمة تجاه سياسات إيران للاستثمار في اليمن عبر الحوثيين.
اليمن قبل «عاصفة الحزم» بلغ شفير النهاية وتخوم الكارثة بسبب انتهازية المكونات السياسية من المؤتمر إلى الإصلاح إلى أنصار الله، وكلها لم تكن لتفكر أبعد من الوصول إلى كرسي السلطة، وهو بهذه التركيبة القديمة سيظل عبئاً ثقيلاً على أي سلطة سياسية جديدة تحاول الإبقاء على يمن موحد ومستقر. الأزمة لا تتوقف عند حظوظ النظام السابق المهيمن في صنعاء أو الحوثيين الذين استطاعوا في فترات مضت تكوين دولة عميقة في الشمال أو رغبة الجنوبيين في الانفصال ومحاولة بناء يمن جنوبي بعيداً عن صراعات وأطماع الشمال وحتى كفاح تعز البطولي وتحولها إلى عاصمة الذود عن هوية الجمهورية اليمنية الحقيقية وكل التضحيات الكبرى التي تقدمها في البقاء صامدة، بل الأمر اليوم هو قدرة اليمنيين على الالتفاف على تلك الهويّة العربية التي ولدت «عاصفة الحزم» لحمايتها.