صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«العلويون» عروبيون ويجب ألا يبقوا مختطفين من النظام

هناك أربعة مؤشرات طرأت مؤخراً وشكّلت، حتى الآن، تحولاً فعلياّ في مسار الأزمة السورية؛ مما عزز القناعة بأن هذه الأزمة قد تشهد انفراجاً حقيقياً، إن ليس في القريب العاجل فعلى المدى المنظور، فروسيا التي كانت تضع كل «عصيَّها» في دواليب كل محاولات الحلول المطروحة أظهرت في الفترة الأخيرة ما يدل على أنها قد تعبت فعلاً من هذا الصراع المعقد، وأنها باتت تسعى لحلٍّ فعلي قد لا يعجب حلفاءها، لكنها غدت في أشد الحاجة إليه.
المؤشر الأول هو أنها، أي روسيا، قد حددت زيارة بشار الأسد إلى منتجع «سوتشي» بأربع ساعات فقط، تم خلالها لقاءٌ سريعٌ قياساً باللقاءات السابقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أما المؤشر الثاني فهو أن «طابورين» من كبار الجنرالات الروس كانا في انتظار الرئيس السوري حول الطاولة نفسها التي تم من فوقها تبليغ المضيف لضيفه بأن عليه أن يفهم ويدرك أن هؤلاء الجنرالات هم الذين «صنعوا» صموده، وهم الذين أبقوه في قصر «المهاجرين» حتى الآن؛ ولذلك فإن عليه أن يلتزم بما يسمع، حيث إن القرار أولاً وأخيراً هو لمن يعطي الأوامر والتعليمات لهؤلاء!
إن هذا أولاً وثانياً، أما ثالثاً فهو أن الرئيس الروسي قد أشار وأمام بشار الأسد إلى أن الحل المطلوب لهذه الأزمة سينتهي في النهاية عند الأمم المتحدة في جنيف، والإشارة هنا واضحة، وأن المقصود هو القرار الدولي 2254 والمرحلة الانتقالية، وهكذا وفي حين أن الإشارة الرابعة هي أن رئيس أركان القوات الروسية فاليري غيراسيموف قد أطلق بعد لقاء «سوتشي» هذا مباشرة تصريحاً تحدث فيه عن أن موسكو ستقوم بسحب غالبية قواتها الموجودة في سوريا، وهذا تهديد واضح للرئيس السوري بأن عليه أن يلتزم بكل ما قاله له فلاديمير بوتين.
وهنا، فلعل الأهم من هذا كله هو أنه قد تم إبراز بعض كبار الوطنيين «العلويين» في مؤتمر المعارضة الأخير في الرياض، من بينهم الفنان الكبير جمال سليمان الذي تم انتخابه نائباً لرئيس وفد المعارضين إلى جنيف، وسفير المعارضة في باريس الدكتور منذر ماخوس، والدكتور عارف دليلة الذي كان تم اعتقاله بعد انقلاب حافظ الأسد في عام 1970 وتعرض لما لا يجوز أن يتعرض له وهو الأستاذ الجامعي اللامع، وحقيقة أن أكبر خطأ ارتكبته المعارضة السورية هو أنها سكتت على استهداف الأصوليين والإرهابيين، وأيضاً الإخوان المسلمين لأبناء هذه الطائفة العروبية الكريمة، وإشعارهم بأن مصيرهم هو مصير هذا النظام، وأن إطاحته ستكون وبالاً عليهم كلهم، سواءً أكانوا من مؤيديه أم من غير مؤيديه.
ربما أنه ضروري أن نشير هنا إلى أن هذه الطائفة العروبية فعلاً قد تعرضت خلال المرحلة العثمانية لأبشع أنواع التهميش ولأقسى أشكال القمع، وأنه فُرِضَ عليها أن تعيش في «جبالها» المعزولة بعيدة عن المدن ومسارات الحياة التي كان يعيشها غيرهم، ومن دون مدارس أو مستشفيات أو طرق معبدة، وهذا يبدو أنه هو ما جعل بعضهم، ومن بين هؤلاء سليمان الأسد جد حافظ الأسد، ينحازون إلى الفرنسيين خلال فترة الاستعمار الفرنسي، بل ويذهبون بعيداً بالمطالبة بقيام دولة علوية لهم، وذلك مع أن زعيمهم، الزعيم الوطني السوري، صالح العلي كان إلى جانب القائد الدرزي سلطان باشا الأطرش في مقاومة فرنسا واستعمارها.
ثم، ولعل هناك من لا يعرف أن العلويين كانوا في طليعة السوريين الذين قاوموا إلحاق لواء الإسكندرون العربي بتركيا «الأتاتوركية»، وأن زكي الأرسوزي، الذي شمل هذا «الإلحاق» بلدته «أرسوز»، ووهيب الغانم وسليمان العيسى وغيرهم قد لعبوا أدواراً رئيسية في الحياة السياسية السورية اللاحقة، وهكذا وفي هذا المجال فإن ما تجب الإشارة إليه هو أن انقلاب مارس (آذار) عام 1963 قد نفذه بالأساس الضباط (البعثيون) العلويون، ومنهم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، وهنا فإن الحقيقة تقضي الإشارة إلى أن أول من طرح فكرة «البعث العربي» هم الطلائعيون العلويون من مفكرين وشعراء وغيرهم.
كان الانتماء الحزبي بالنسبة لهذه الطائفة العروبية يتوزع في البدايات بين الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العربي الاشتراكي، لكن بعد اغتيال الضابط «البعثي» اللامع عدنان المالكي ووضْع القوميين السوريين على القوائم السوداء أصبح حزب البعث هو التنظيم شبه الوحيد في المناطق العلوية، وبرز من العلويين فيه عدد كبير من كفاءات تلك المرحلة التاريخية وفي المراحل اللاحقة بعد انقلاب عام 1963 وحتى انقلاب حافظ الأسد في عام 1970... وإلى الآن!
إنها فترة مسار صعب، وفترة تقلبات متلاحقة تلك الفترة التي استمرت منذ الثامن من مارس عام 1963 وحتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970، ولعل ما يجب أن يقال هنا هو أن الثقل الرئيسي في هذه الفترة بالنسبة لـ«العلويين» كان إلى جانب صلاح جديد الذي بدأ صراعه مع الأسد يظهر إلى العلن بعد حركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966، وأن الثقل الرئيسي في المؤتمر القومي «البعثي» العاشر الاستثنائي كان إلى جانب المجموعة «اليسارية» التي كان يتزعمها، ولعل ما لا يعرفه البعض هو أن الذين رجحوا الكفة الأسدية في ذلك الصراع كانوا كلهم من «السنة» الذين كان في مقدمتهم من العسكريين مصطفى طلاس وحكمت الشهابي، ومن المدنيين عبد الحليم خدام، والمعروف أن هؤلاء كلهم قد أصبحوا لاحقاً لاجئين سياسيين في ديار الله الواسعة.
لقد تحول الصراع على الحكم بعد انقلاب عام 1970 إلى صراع علوي - علوي بين جماعة حافظ الأسد من جهة، وبين جماعتي محمد عمران وصلاح جديد من جهة أخرى، وحقيقة أن جماعة الرئيس السوري السابق كانت هي الأضعف في فترة منتصف سبعينات القرن الماضي، وهذا كان قبل اغتيال محمد عمران في طرابلس اللبنانية عام 1974 وقبل حملة التصفيات المتلاحقة التي نفذتها الاستخبارات والمخابرات السورية ومخابرات سلاح الجو وسرايا الدفاع ضد هاتين الجماعتين.
والمهم أن حافظ الأسد قد تمكن من حسم الأمور داخل الطائفة العلوية لمصلحته وبصورة شبه نهائية مع نهايات سبعينات القرن الماضي، وإن الأمور قد أصبحت مستتبة له ولابنه من بعده بعد ذلك، وإلى أن تفجرت الثورة السورية في عام 2011، وحيث أدى الغباء أو التآمر - لا فرق - إلى شن حملات إرهابية وترهيبية ضد العلويين من قبل «القاعدة»، ولاحقاً من قبل «داعش» و«النصرة»، وأيضاً من قبل الإخوان المسلمين، وذلك في حين أنه كان بالإمكان كسب غالبية هؤلاء إلى جانب هذه الثورة لو لم يحصل هذا الذي حصل وتصبح هذه الطائفة الكريمة بمعظمها مختطفة من قبل أجهزة هذا النظام القمعية،.
والآن وقد أصبحت هناك تحولات فيها الكثير من الجدية لإنجاز حلٍّ فعلي وفقاً لـ«جنيف 1» وعلى أساس مرحلة انتقالية من المفترض ألاّ دور لبشار الأسد فيها فإن المصلحة الوطنية والمصلحة القومية أيضاً تقضيان بفتح أبواب «المعارضة» على مصاريعها لأبناء هذه الطائفة العروبية الكريمة، وبخاصة أن خطر تقسيم سوريا لا يزال قائماً ولا يزال مطروحاً... وأن هناك من يسعى لتحويل هذه المنطقة العربية إلى قطع فسيفسائية طائفية وعرقية متناحرة.